الثورة أون لا ين – فؤاد الوادي:
إلى جانب كل الحروب المباشرة التي شنتها علينا دول الغرب الاستعماري، كانت هناك حروب أخرى موازية وغير مباشرة تجري في الظل لنفس الغاية، وما يميزها عن الحروب المباشرة أنها كانت سابقة لها بمراحل عديدة وكانت أشد شراسة ووحشية منها ضمن استراتيجية الاستهداف والغزو الفكري والثقافي والقيمي لشعوب المنطقة، تلك الاستراتيجية التي وضعت في أولى أهدافها تحطيم ونسف المنظومة القيمية والأخلاقية التي تتفرد بها شعوب المنطقة، ولا سيما الشعب العربي السوري صاحب الحضارة والتاريخ والهوية والانتماء.
ولطالما انشغل الغرب ومعه شركاؤه الجدد في الاستعمار والطغيان والإرهاب (أميركا وإسرائيل) بتطبيق وتنفيذ تلك الاستراتيجية على الواقع وعبر كل الطرق والوسائل حتى لو كان مطيتها شعارات نبيلة مثل (الدفاع عن الحريات وحماية حقوق الإنسان) والتي استخدمتها الولايات المتحدة لغزو المنطقة والعالم، وكان هدف الغرب دائماً هو تدمير أفكارنا وقيمنا وثقافاتنا التي تشكل بالمحصلة هويتنا الحضارية والتاريخية، ولا سيما أننا أمة كانت ولا تزال حاملة للواء الحضارة والهوية والانتماء المقدس للوطن، ولعل هذا الأمر تحديداً لا يزال يشكل عقدة نقص عند دول الغرب الاستعماري عموماً والولايات المتحدة والكيان الصهيوني بوجه خاص، حيث انخرط هؤلاء جميعاً في مشاريع ومؤامرات لاستهداف هذه العقيدة المتجذرة في عقولنا ووجداننا.
وكانت مخططات استهدافنا من الداخل، أي استهدافنا بثقافاتنا وعقولنا وأفكارنا جزءاً من مخططات استهدافنا الوجودي والجيوسياسي والجيواستراتيجي، وهذا ما تؤكده كل الحروب والاعتداءات المتكررة علينا كأمة عربية عموماً، وكدولة ذات سيادة واستقلال وتاريخ متجذر في الحضارة من قبل الغزاة بمختلف أشكالهم ومشاربهم.
(الليبرالية الحديثة) التي شرحها السيد الرئيس بشار الأسد بخطابه في جامع العثمان بكثير من الدقة والتفصيل والإقناع مبرزاً مخاطرها وغاياتها وأهدافها التدميرية على منظومتنا الفكرية والأخلاقية والقيمية، هي أحد أهم أدوات وأسلحة الغرب الحديثة والفتاكة لضرب ثوابتنا وقيمنا ومبادئنا ونسف كل معتقداتنا من جذورها، عبر تسويق ونشر منهجيتها تحت عناوين الحرية الفردية التي تجعل من الفرد أساس كل شيء بدلاً من الأسرة والمجتمع، ومن خلال ضرب المسلمات والمبادئ التي من شأن فقدانها أو التخلي عنها أن يؤدي إلى تصدع وانهيار الثنائيات الطبيعية للإنسان عموماً، ولشعوبنا العربية ذات الهوية الحضارية والإنسانية والقيمية على وجه الخصوص، وهذا كله بهدف إضاعة البوصلة وتشتيت الفكر والعقل عن المبادئ والقيم الحقيقية للإنسان، وإغراقه في أيديولوجيات خادعة وزائفة ترتدي أثواباً براقة للحرية والديمقراطية.
إن ضرب المسافات الفاصلة بين الثنائيات الطبيعية المعروفة في الحياة مثل (الحق والباطل، الخير والشر، الانتماء والتخلي، الوفاء والخيانة، السيادة والتبعية، الاستقلال والتدخل الأجنبي.. الخ)، والدفع باتجاه الخلط بينها والدخول إلى المنطقة الرمادية والضبابية، عندها يصبح الإنسان غير قادر على تحديد مواقفه وخياراته ومشروعه، وبالتالي يسهل سلخه عن قيمه وعن وطنه وعن هويته وانتمائه بكل بساطة، وهنا الخطورة الأكبر، لأن الأعداء يمكنهم من خلال هذا التشتيت وتمييع الفوارق تحقيق أهدافهم وغاياتهم الاستعمارية بكل سهولة، لأن ضرب المسلمات والمبادئ يؤدي إلى ضياع الإنسان وفقدان توازنه القيمي والأخلاقي بحيث يمكنه قبول أو تبرير كل ما يجري بحق وطنه وشعبه، والاستسلام لكل ما يفرض من الخارج، وتموت المبادئ والقيم التي يقدسها الإنسان ويدافع عنها، وبهذا الشكل يستطيع الأعداء التغلغل بسهولة واختراق أي مجتمع وتنفيذ أجنداتهم وخدمة مصالحهم بالشكل الذي يرغبون دون دفع أي ثمن، وهذه هي الغاية الكبرى لتلك الأطراف التي تحمل مشاريع احتلالية واستعمارية للمنطقة على رأسها نهب الخيرات والثروات وفرض وجودها كأمر واقع لا مفر منه.