الثورة أون لاين:
عندما تنضج الذكريات لدى مبدعٍ ترعرع على أبجدية المقاومة، لابدَّ أن تتسلّح مفرداته بعشقِ وطنٍ فتح عينيه فيه، فرأى النور يدلهم من شدّة ظلم وظلام محتلّيه. أيضاً، لابدّ أن تفيض ذاكرته بمفردات المرارة والقهر والتمرد والألم، ومن أن يكتب بلون النقمة على عدوِّ حقّه وأرضه، سيرة حياةٍ هي سيرة وطنه، الذي مثلما حمله في قلبه ووجدانه، حمله في نبض القلم.
إنه “موسى حوامدة”. الشاعر الفلسطيني النشأة، الأردني الجنسية، والذي لا يمكن أن تسأله عن سيرته، إلا ويسارع لاستحضار قريته. “السموع” التابعة لمدينة الخليل، والتي وإن تمّ احتلالها وتدميرها من قبل الصهاينة، إلا أن صرختها سرت في سنواته وكيانه وأعماله، صرخة حقٍّ باقية:
“أصعب ما في مرحلة الطفولة، أنني رأيت قبل أن يتفتح وعيي، جيش الاحتلال الإسرائيلي بجنوده ودباباته، يجثم على الربوات والطرق ويحتل الأرض والفضاء والروح أيضاً.
أول ما بدأت أسمع، سمعت جنود الاحتلال يتحدثون العبرية، تلك اللغة الغريبة التي جعلتني أدرك، قيمة اللغة التي أتحدث بها، وإلى الدرجة التي جعلت هذه اللغة لدي، هي الهوية.
من يومها قرّرت أن أصبح شاعراً، كنت أؤمن أن القصيدة هي البندقية التي ستمكِّنني من رفع الظلم، وتحرير البلاد.
نعم، آمنت بذلك، وبأن الكلمة رصاصة – ربما هي فكرة رومانسية- لكن، هذا ماكنت مقتنعاً به في طفولتي التي احتشدت فيها، الأحداث والذكريات والمعاناة وفقدان الأحلام وملعب الطفولة.
كلّ هذا، احتشد دفعة واحدة، في ذاكرة الصبي الذي كنته، فكان سيرة وطن. سيرة طفلٍ أدرك ومذ سمع الحكايا العديدة والموجعة، التي تروي معاناة الفلسطيني في كل منطقة وكل ظرفٍ، بأن لكلٍّ واحدٍ من أبناء هذا الشعب حكايته الخاصة، مع اختلاف الظروف، فهناك من عاش تحت الاحتلال في فلسطين 1948 وهناك من عاش في غزة أو الضفة أو القدس أو حتى المنفى”.
هكذا كانت طفولة “حوامدة”. الشاعر الذي أبى إلا أن يسعى لجعل الكلمة سلاحه لمواجهة عدوِّ طفولته وأرضه. أبى ذلك، فكانت رحلته الإبداعية مبكّرة، وكانت مجموعاته الشعرية رصاصاتٌ لم يُطلقها لإثارة الـ “شغب”، وإنما لأن روحه كانت متمرّدة على الاستلاب، وتنبضُ أبداً بالتساؤل والغضب.
التساؤل المنبثق من لغته وفلسطين، هي الحبُّ الذي ألهمهُ إنشادها: “تزدادين سماءً وبساتين”، والغضب على عدوّ وطنه ومغتصب أرضه. العدو الإسرائيلي الذي واجهه بصرخته – صرختها:
“شجري أعلى” فـ “سلالتي الريح وعنواني المطر”.. أنا الشاعر الواثق بالشمس، أرى الـ “موتى يَجرُّون السماء”.. و”جسد للبحر.. رداء للقصيدة”.
“سأمضي إلى العدم” بلا ندم، فالعدم أنتم وسأواجهكم، بالكلمة والصرخة، بل والمفردة.. جعلتموني الغريب عن بلادي، ولست بالغريبِ لأنني ألبسها ورداً، و”تجبر خاطر الغريب.. وردة”.
“لست حزيناً، لكنَّ قلبي طري/ صيَّرتني أمي شاعراً وما بيدي/ أنقى من النقاءِ جئت/ ومن البياضِ كنت/ ومن الندى رسمتُ وجهي ويدي/ وحَمَّلَتني ما لا أُطيقُ من نَقاء السَّريرة/ ومن رائحةِ العُشبِ في قَريتي/ ومن رِضا الوالِدين/ والصَّلاة على النَّبي/ ومن حبِّ فلَسطين/ أَورثتني الهشاشةَ والدُموع/ ومن حبِّ بَغداد حتَّى طَنْجة/ أوْرَثَّتني خَفْقَ الضُّلوع/ ..
لسْت يَتيما/ لكنَّ حُزني قَصيّ/ وبلادي صارَتْ قِطعَةً/ تَذوبُ في الحَنين إلى شَفَتيّ/ لسْتُ حزيناً يا بلادي/ إلا.. عليّ”.
لا.. إنه حزين مهما أنكر، فالشّعر يفضح أوجاع قلبه، وقصيدته جريئة ويعجز على التنكُّر بها، أو على جعلها تتنكّر.. روحه متألمة وساخرة، وأفقه معبّد بالأمنيات النازفة لتداعيات الذاكرة.. يحلمْ، ويودع أحلامه في كلماته الشعرية. يثور، وليس على عدوه فقط، بل على اللغة إن لم تكن عميقة وقادرة على تحرير الأوطان والتمسّك بالهوية الوجدان، مثلما على مقارعة الوجود بفلسفةٍ وجودية:
“أنا متشبِّث بهويتي ولغتي، لأني أعتبرها جداري الأخير أو حصني الأخير. أريد تحرير فلسطين من باب لغتي وهويتي. من باب عروبتي. أريد فلسطين عربية، وأن تظل عربية. من هنا أنا متمسك جداً بالتراث. لكن أيضاً، أتطلع لأساليب الكتابة الحديثة. أحب مواكبة الحياة المعاصرة، ولست رجعياً بمعنى الوقوف عند الماضي.. أريد لهذا التراث ألا يتجمد في المكتبة وفي عقول البعض الماضويين، أريد منه أن يتحول. أن يذهب معي إلى الأمام. أن يكون معاصراً دون أن أفقد هويتي، أو انتمائي لقصيدتي:
للشارعِ المنداحِ من رأسي إلى يافا/ سكبتُ نواشر الوطن المعنون في الجرائد بالسليب/ للشارع المنداحِ أحلامُ الصغار وآهةُ البحر المدمّى بالنحيب!..
شجرٌ على الجَنباتِ والأطيارُ تنتظرُ/ صحوٌ على الشرفاتِ والأعيادُ والساحات تفتقرُ/ للفارسِ المزروعِ في الأمطارِ/ للراياتِ ترفل بالرصيف!/ في الشارع المنداح عبَّدتُ القصائدَ والأغاني والسنينْ/ أفردتُ غيماتي فذابت في رماد السبت/ وانطفأ المغني في الرغيف!..
في الشارعِ المفتوحِ من رأسي إلى يافا/ وصلّت في الحقول خمائلُ الراحات أسراب الطيور/ والشارعُ الممتد يبدأ في الظهورْ/ من نقطةٍ في الصدر/ يبدأ في الظهورْ!”..
5-1-2021
رقم العدد 1027