الثورة أون لاين – علي الأحمد:
*** تختلط الأمور على بعض الموسيقيين العرب، ممن تتحكم بهم عقدة الآخر الغربي ، والافتتان به الى درجة تقمص واستنساخ لغته الموسيقية بحذافيرها ، كونها – كما يعتقد هؤلاء – السبيل الوحيد، في الطريق نحو العالمية، بمايعني ذلك من التخفف النهائي من كل مايربطهم بتاريخهم وهويتهم الموسيقية الوطنية، التي من المفروض أن ينتموا لها ولو بالحدود الدنيا من الانتماء.
-على كلٍ، لن نناقش هؤلاء في خياراتهم الخاطئة، أو نحجر على آرائهم وطريقة تناولهم لهذا الموضوع الثقافي القديم المتجدد، الذي سال الكثير من الحبر في تبيان وشرح أثره وآثاره على خصوصية موسيقات الشعوب وموقعها الثقافي المهم في مسير ومسرى الثقافة العالمية عبر التاريخ. فلو قرأ هؤلاء المتغربون تجارب هذه الشعوب الموسيقية بعين البصيرة قراءة واعية ومعرفية، لأدركوا أي منزلق هم سلكوه في سبيل وهم مخادع ومخاتل، اسمه الوصول الى العالمية ، عبر التماهي مع الآخر المغاير والتصاغر الدوني في حضرته، فقط لأنه يمتلك الاقتصاد الضخم المرعب والإعلام المزيف الذي يتبنى ثقافة اللهو والاستمتاع، على حساب الثقافة التنويرية، التي ترتقي بالانسان أينما كان، عبر تقديم الفن الراقي الأصيل، الذي يبني هذا المتلقي تربوياً وأخلاقياً، ويزيد من إحساسه بالجمال والابداع، ودائماً ماكانت هاتين الثقافتين على تضادٍ واختلاف بيّن بينهما عبر الأزمنة قديماً ومعاصرة، وهذا يطرح اسئلة ملحاحة من واقع الموسيقى اليوم، حول مسألة الحداثة، هل تعني بمفهوم هؤلاء مسارها الزمني، أم مسارها الإبداعي وهل يمكن لحداثة “العولمة” أن تكون ابداعية ، بعيداً عن منطق الهيمنة التي تبشر به وتسعى الى تعميمه في كافة تفاصيل المشهد المعاصر؟ بالطبع لايمكن لها أن تكون ابداعية بالمطلق، لأنها تعتمد بشكل أساس على الاستهلاك السفيه الذي يُسلّع الفنون كأية بضاعة تجارية تتوخى الربح المادي لا أكثر أو أقل، وهذا المشهد العبثي المهيمن يحوي الكثير من الأمثلة والشواهد على ذلك.
– صحيح أن لهذه المنظومة بعض الايجابيات لايمكن للمرء من إنكارها أو القفز عليها، سواء تعلق الأمر بالتسجيل والتوثيق والنشر وغيرها، إلا أن ايديولوجيتها المعلنة، تقول وتؤكد على أنها تسعى الى إحداث قطيعة معرفية ووجدانية مع كل مايمت للماضي من صلات روحية وجمالية، وهذا مايحصل بحذافيره مع كل أسف، وهي انبنت أصلاً على هدم البناء الموسيقي القديم، عبر ماتتيحه من حركات تدمير الموسيقى والنيل من القواعد والأصول الراسخة التي ارتبطت به منذ أن اجترحها الفكر الفلسفي القديم وذهنية أولئك الحكماء والعلماء الكبار في مسيرة هذا الفن النبيل عبر التاريخ. ولهذا السبب يراها الكثير من المفكرين والباحثين حتى في الغرب نفسه، شراً مطلقاً وخطراً داهماً، على نقاء وخصوصية الهويات الموسيقية الوطنية، نظراً لما تتيحه من منتوجها التجاري الذي يتعارض كلياً مع الميراث الروحي العظيم لدى الشعوب، كإرث ابداعي ينتمي الى البشرية جمعاء،تأطر ضمن مسارات التثاقف والحوارات الابداعية التي لم تنقطع بين الموسيقات عبر الحقب والأزمنة، كما شارك فيها الموسيقي العربي قديماً ومعاصرة في ارتحال لم ينقطع مع أقرانه في هذه الموسيقات، بغية تأصيل الحداثة الكلاسيكية بمعناها التاريخي الابداعي، وليس الزمني العابر، في هويته الموسيقية المائزة، وهذا مايفتقده هؤلاء الذين سلكوا أهون الطرق وأسهلها، نحو تبني لغة التقليد والتبعية لهذا الآخر، مع أن كل الظروف مهيأة الآن وأكثر من أي وقت مضى، في تأكيد الشخصية الثقافية وإثبات الذات، في معركة ثقافية لابد من خوضها بماتمتلك موسيقانا من حضور ومكانة وموقع عبر التاريخ، فكراً وتأليفاً وابداعا. وهذا الكلام ليس إنشاءاً جميلاً او كلاماً منمقاً، قدر ماهو حقيقة علمية ومعرفية، تغيب عن بال هؤلاء المدجنون ، لأنهم يلهثون وراء الحقائق المزيفة وثقافة الجميع أي ثقافة لا أحد، ثقافة المال الفاسد المُفسد، الذي يقلب الحقائق رأساً على عقب ، بفعل التكرار والتعود، الذي يسود ويتسيد هذا المشهد الكوني العبثي، ولهذا لانتوقع الكثير من هؤلاء لأنهم راهنوا على الحصان الخاسر، واندفعوا في مغامرتهم التغريبية الى مطارح وأمكنة أفقدتهم المكان والمكانة والأهم القيمة الابداعية لمسارهم الموسيقي الذي أوقعهم في مأزق “الحداثة” المعولمة، وبالتالي الانقياد الأعمى للونها الأوحد، والتبعية لايديولوجيتها الماكرة المخادعة.