الثورة – دمشق محمود – ديبو:
سيدة العطر والصباحات الرقيقة ومبعث الدفء والحب في القلوب الرقيقة، وكما يسميها الباحث الفني غسان شاهين عضو جمعية أصدقاء دمشق، إنها أسطورة الصوت الرقيق والكلمة التي تلامس القلوب، إنها فيروز أيقونة الصباحات الجميلة وصوتها الذي يبعث الحب والهدوء والصلاة والتفاؤل والجمال والأمل في النفوس..
هي زاد الخير وعطر الليل وجارة القمر وناطورة المفاتيح ولولو ووردة وزيون.. وفي يوم ميلادها تعود بنا الذاكرة لتوثق عشق فيروز لدمشق وعشق دمشق لفيروز حيث هنا كانت البدايات وإليها أهدت فيروز أجمل الكلمات والألحان بصوتها العذب الرقيق.
يقول شاهين خلال أمسية أقيمت قبل أيام في كنيسة سيدة فاتيما بالقصاع في دمشق بمناسبة مرور 90 عاماً على ولادة أيقونة الصباح إن لفيروز مع دمشق قصة عشق خالدة ومتأصلة بالقلب والوجدان، فمع الأخوين فليفل (ملحنا النشيد العربي السوري حماة الديار عليكم سلام) كانت البداية وفي سن مبكرة جداً (كانت فيروز في الثالثة عشر من عمرها) اكتشف الأخوين فليفل “نهاد حداد” وضماها إلى كورال الإنشاد الذي أسساه معاً ومنذ ذلك الوقت بدأت فيروز مسيرتها الفنية نحو الخلود..
وكان للفنان اللبناني والملحن حليم الرومي دوراً مهماً في الحياة الفنية لـ “نهاد حداد” فهو الذي اختار لها اسمها الفني “فيروز” ومنحها شخصية خاصة في الموسيقا والأغاني العربية.
ليأتي بعد ذلك دور عاصي الرحباني وأخيه منصور اللذين كتبا ولحنا الروائع الفيروزية التي ما تزال يرددها الملايين كل صباح.
ويقول الباحث شاهين إنه في العام 1953 كان الأمير يحيى الشهابي يشغل منصب مدير البرامج في إذاعة دمشق، ودعا فيروز والأخوين رحباني لزيارة الإذاعة السورية، ومنذ ذلك التاريخ شرعت دمشق أبوابها السبعة لفيروز واحتضنتها إذاعة دمشق حيث خصصت لها يوم الأحد من كل أسبوع لتقدم عبر أثيرها أحدث أغانيها واسكتشاتها، وكانت أولى أغاني فيروز التي غنتها على أثير إذاعة دمشق هي أغنيتها الشهيرة:
حاجي تعاتبني يئست من العتاب… ومن كتر ما حملتني هالجسم داب… حاجي تعاتبني وإذا بدك تروح.. روح وأنا قلبي تعود عالعذاب..
وهكذا بدأت الرحلة الفيروزية الرحبانية من دمشق حيث دأب الأخوان رحباني على ابتكار لون خاص جديد لكلماتهم وألحانهم التي راحت تغنيها فيروز..
ولهذا كان لا بد من رد الجميل لسورية بل (الشام كما كان الرحابنة يفضلون تسميتها في مقابلاتهم) التي احتضنت ورعت وأطلقت هذه الأسرة التي لن تتكرر، فكان لدمشق حصة في صوت فيروز وأغنياتها التي غنتها على مسرح معرض دمشق الدولي خلال مسرحياتها التي بدأت عام بمسرحية جسر القمر عام 1962، ثم مسرحية الليل والقنديل عام 1963، ثم بياع الخواتم عام 1964، هالة والملك عام 1967، والشخص عام 1968، وجبال الصوان عام 1969، وصح النوم عام 1970، وناس من ورق عام 1971، وناطورة المفاتيح عام 1972، ومسرحية المحطة عام 1973، ومسرحية لول عام 1974، وميس الريم عام 1975، وبترا عام 1977.
ولعل أغنيتها الشهيرة (خطة قدمكم ع الأرض هدارة) التي غنتها أيام حرب تشرين التحريرية 1973 ما تزال تتردد أصداؤها في وجدان كل سوري.
وبالعودة إلى بداياتها مع الأخوين فليفل يوضح الباحث الموسيقي غسان شاهين إنه في العام 1952 غنت فيروز لدمشق كلاماً جميلاً قالت فيه:
على الأرض فوق السهول.. وعبر شعاب الجبال
على الأرض بين الوحول وفوق الدروب الطوال
نشق الطريق ونمضي تباعاً لخوص القتال
وعند الحدود وفي ميسلون.. لنا ذكريات
بطولات جيش تحدى المنون ليبني الحياة الحياة.
وفي العام 1952 غنت أيضاً للأخوين فليفل قصية “موطن المجد” وبعدها غنت “بلادنا لنا”
ومع الأخوين رحباني غنت فيروز لدمشق أغنية “ضفاف بردى” التي تقول فيها:
مواطن الصفصاف يموج بالأطياف على غوى الندى.. ضفاف بردى
إذا حبيبي جاء فهيأ الأفياء
ضفاف بردى.. يا جارة الأحلام
على جبين الشام.. تلون المدى.
وبعدها غنت (سوريا .. سوريا .. مواكب تسير في مطالع الضياء.. فاخفضي الجباه يا جبال للإباء..)
كما غنت للرحابنة (وطني سماؤك حلوة الألوان .. وربوع أرضك عذبة الألحان..
هذي الملاعب بالمنى وشيتها .. وكسوتها حللاً على الأغصان).
ويستمر العطاء الرحباني مع أغنية “إلى دمشق”
حيث تقول: بلادي وزهر دمشق يضوع.. بما في الذرى من شذا ضيع
دمشق الجميلة عند رباً من الشرق طيبة المرتع
يحدث عنك برفعة رأس… حديث البطولات لم تركع.
لنصل إلى أغنيتها الأشهر التي غنتها للشام عندما قالت:
يا شام عاد الصيف منتداً وعاد بي الجناح
صرخ الحنين إليك بي.. أقلع ونادتني الرياح
كل الذين أحبهم نهبوا رقادي واستراحوا
فأنا هنا جرح الهوى.. وهناك في وطني جراح
وعليك عيني يا دمشق فمنك ينهمر الصباح
يا حب تمنعني وتسألني متى الزمن المباح
وأنا إليك الدرب والطير المشرد والأقاح
في الشام أنت هوى، وفي بيروت أغنية وراح
وتقول في آخر الأغنية
يا شام يا بوابة التاريخ تحرسك الرماح.
ومن شعر وكلمات الشاعر الأخطل الصغير وألحان الأخوين رحباني غنت فيروز “ذكرى بردى”:
بردى.. هل الخلد الذي وعدوا به .. إلاك بين شوادن شوادي
قالوا تحب الشام .. قلت جوانحي .. مقصوصة فيها وقلت فؤادي.
ومن كلمات الشاعر الأخطل الصغير لحن الأخوين رحباني وغنت فيروز:
يا ربى لا تتركي وردا ولا تبقي أفاحا
مشت الشام إلى لبنان شوقاً والتياحا
فافرشي الطرق قلوباً وثغوراً وصداحا.
ومن كلمات الشاعر السوري الكبير نزار قباني غنت فيروز :
لقد كتبنا وأرسلنا المراسيلا.. وقد بكينا وبللنا المناديلا
قل للذين بأرض الشام قد نزلوا.. قتيلكم في الهوى ما زال مقتولا
يا شام يا شامة الدنا ووردتها .. يا من بحسنك أوجعت الأزاميلا
وددت لو زرعوني فيك مئذنة .. أو علقوني على الأبواب قنديلا
يا بلدة السبعة الأنهار يا بلدي… ويا قميصاً بزهر الخوخ مشغولا
هواك يا بردى كالسيف يسكنني.. وما ملكت لأمر الحب تبديلا..
يا شام إن كنت أخفي ما أكابده .. فأجمل الحب حب بعد ما قيلا.
ومن كلمات الشاعر سعيد عقل غنت فيروز لدمشق:
مر بي يا واعداً وعدا .. مثلما النسمة من بردى
تحمل العمر تبدده .. آه ما أطيبه بددا
وكذلك أغنية “شام يا ذا السيف لم يغب”
شام يا ذا السيف لم يغب.. يا كلام المجد في الكتب
قبلك التاريخ في ظلمة .. بعدك استولى على الشهب
لي ربيع فيك خبأته .. ملء دنيا قلبي التعب
تلتوي خصراً فأومي إلى نغمة الناي ألا انتحبي
طابت الذكرى فمن راجع .. بي كما العود إلى الطرب
شام أهلوك إذا هم على .. نوب قلبي على نوب
أنا أحبابي شعري لهم .. مثلما سيفي وسيف أبي
أنا صوتي منك يا بردى .. مثلما نبعك من سحبي
ثلج حرمون غدانا معا .. شامخاً كالعز في القبب.
ومن شعر سعيد عقل غنت فيروز “أحب دمشق”
أحب دمشق .. هواي الأرق
أحب جوار بلادي.. ثرى من صبا ووداد
رعته العيون جميلة .. وقامة كحيلة .. أحب دمشق.
وبعدها غنت لسعيد عقل أيضاً:
حملت بيروت في صوتي في نغمي.. وحمّلتني دمشق السيف بالقلم
فنحن لبنان، وكر النسر دارتنا .. والشام جارتنا، يا جيرة الهمم
ويا هوى من دمشق لا يفارقني .. سكناك في البال سكنى اللون في العلم.
وبأجمل الكلمات لسعيد عقل صدح صوت فيروز بأجمل المعاني للشام:
سائليني يا شآم..
حين عطرت السلام .. كيف غار الورد واعتل الخزام
وأنا رحت أسترضي الشذا .. لانثنى لبنان عطراً يا شآم
رد لي من صبوتي يا بردى .. ذكريات زُرن في ليا قوام.
وجاءت أغنية “بالغار كللت لسعيد عقل”:
بالغار كللت أم بالنار يا شام .. أنت الأميرة تعلو باسمك الهام
أواه بضع غمامات مشردة .. في الأفق بعض رؤى والبعض أحلام
سألتهن: أظللتنها صبحاً؟ شامي التي وحدها للعود أنغام
كأنما نضجت خضر المواسم من .. هو أغاني والأشعار أيام
ختام تشرين هل ناس أوائله .. إذ هب يعتصر العنقود كرام
يا شام .. سكبك مجد، ما يكون إذا .. بملء كفك دفقاً أفرغ الجام
وغنت أيضاً قرأت مجدك في قلبي:
قرأت مجدك في قلبي وفي الكتب.. شآم ما المجد أنت المجد لم يغب
إذا على بردى حور تأهل بي.. أحسست أعلامك اختالت على الشهب
شآم أرض الشهامات التي اصطبغت .. بعندمي نمته الشمس منسكب
وكذلك غنت لسعيد عقل “نسمت من صوب سوريا الجنوب”:
نسمت من صوب سوريا الجنوب.. قلت هل المشتهى وافى الحبيب
أشقر أجمل ما شعثت الشمس.. أو طيرت الريح اللعوب.
وفي الختام يقول الباحث شاهين إن فيروز ستبقى في قلب دمشق ولن تغيب دمشق عن قلب فيروز، إنها قصة الحب الخالدة لهذه المدينة العظيمة والتي عاشتها فيروز وأبدعت في توريثها لكل الأجيال في كل مكان مع الأخوين رحباني من خلال مختاراتهم الشعرية وألحانهم التي لا تنسى.
ولنصلي ليعود الألق للشام وليطيل الله بعمر الملاك الرحباني لتغني من جديد في أرض السلام والمحبة والوفاء.