الملحق الثقافي:حبيب الإبراهيم:
يُعدّ مفهوم النّخب الثقافيّة من أكثر المفاهيم حضوراً وتداولاً في الأوساط الثقافيّة والإعلاميّة والاجتماعية، حيث ارتبط هذا المفهوم بمدى تأثيره ضمن مساراتِ التطوُّر الاجتماعي عبر أنساقه المتلاحقة، كون هذه النخب هي الأقدر على التحليل والتوجيه والتغيير الإيجابي في المجتمع، أو هكذا يجب أن تكون، ومن المفترض أن تكون هذه النخب أكثر قدرة على فهم الواقع وتحليله والتأثير فيه إيجاباً لناحيةِ بناءِ وعيٍ مجتمعي، وتقديم الحلول لمشكلات المجتمع الثقافية، الاقتصادية، الاجتماعية، فالدور المنوط بها بحكمِ موقعها ومكانتها في المجتمع وتحصيلها العلمي، جعلها في مقدمة من يقع عليه حمل لواء الإصلاح، ونشر قيم الإخاء والمحبة، وتعميم الفكر التنويري، وتحصين المجتمع وحمايته من الأفكار الهدّامة، والأمراض الاجتماعية المزمنة من تعصب وتطرف و…. وصولاً إلى مجتمعٍ تسوده العدالة والمساواة والإخاء، والمحبة والتسامح واحترام الآخر.
رغم ظهوره في القرن التاسع عشر، فإن مصطلح “النخب”، أو الحكماء، أو النبلاء أو .. مازال متداولاً حتى الآن مع تغيّر في الشكل والمضمون. بقي هذا المصطلح محطّ خلافٍ داخل المجتمعات العربية التي شهدت تغيّرات متلاحقة، في الانماط والأنساق الاجتماعية.
لكن واقع هذه النخب الثقافية يؤكّد شبه القطيعة التامة مع الجمهور، إما لانتشار الأمِّية والعداء الواضح والبيّن للقراءة، وإما أنّ ما تتبناه النخب يبتعد بشكلِ أو بآخرٍ عن قضايا واهتمامات الناس، وبالتالي تزداد الفجوة بين الطرفين، حتى تصل إلى حدِّ القطيعة.
يرى البعض أنّ النخب الثقافية، نُخب منطوية، تعيش أحياناً عزلة اختيارية، تجلس في برجها العاجي، تطرح أفكارها وكأنها تعيش حالة من الانفصام مع الواقع، إذاً مفهوم النخب مفهوم غائم، ملتبس، ضبابي، مثير للجدل، يشوبه الغموض.
يرى الدكتور “علي وطفة” أن المفهوم الاستراتيجي للنخب: “يشكّل أحد المفاهيم الاستراتيجية الموظفة منهجياً في تحليل الظواهر الاجتماعية والإنسانية، ولا سيما القضايا الاجتماعية التي تتَّصل بالسلطة والطبقة وتوزيع الثروة والتطور الاجتماعي والتنمية”.
وبالتالي فإن مفهوم النخبة، والكلام ما زال للدكتور “وطفة”: “ليس مجرد مفهوم وصفي للدلالة على وضعية اجتماعية محددة في داخل المجتمع، بل هو أداة مهمة جداً في مستويات تحليل الظواهر الاجتماعية وتفسيرها”.
والنخب الثقافية تتحمل مسؤولية التخبُّط والضياع والتشرذم التي يعيشها المجتمع العربي، عندما تخلّت عن دورها التثقيفي، التنويري، التوعوي، وانكفأت في قوقعة ذاتية مظلمة، وبالتالي أيّ حالة ترهُّل أو انتكاس في السلوك والممارسة، تعزى بشكلٍ أو بآخر إلى هذه النخب التي ارتهن بعضها لأفكارٍ ومصطلحاتٍ وإيديولوجياتٍ وسياساتٍ وثقافاتٍ ومصالح ومفاهيم، خارجة عن قيمِ ومبادئ المجتمع وأخلاقياته وقيمه، عندما انسلخ هؤلاء عن بيئتهم وواقعهم وانجرفوا في تيار ما سمّي زوراً وبهتاناً، “الربيع العربي” نهاية العقد الأول من هذا القرن، حيث جاء مدمِّراً ومشوّهاً للفكر والثقافة، للنسيج الاجتماعي، للمجتمع وأمنه واستقراره، تحت ذرائع الحرية والديمقراطية والتغيير الاجتماعي وحقوق الإنسان.
لقد أثبتت النخب الثقافية في مجتمعنا العربي، فشلها في صياغة مشروع وطني جامع، يرتكز على الثوابت الوطنيّة والقيم الحضارية والإنسانية، عندما تمترست في أبراجها العاجية، وراحت تطرح الشعارات بعيداً عن الواقع المُعاش، والقاعدة الشعبية التي وجدت نفسها في مواجهة أزماتٍ متتالية لا طائل لها، وتجلّى هذا الدور المشبوه، بالموقف العدائي ضد سورية، ومحاولاتهم البائسة لتدمير بنية المجتمع ونسيجه الاجتماعي، وضرب هويته الوطنية من خلال نشر ثقافة الحقد والكراهية، وتكريس التطرف والتفرقة على أسسٍ دينية وطائفية ومذهبية.
إنّ ما تنتظره القاعدة الشعبية من هذه النّخب، في سياق المسارات الثقافية والاجتماعية، مهم جداً وضروري لبناء رؤى ثقافية تنطلق من الواقع وتتماشى مع التطورات التقنيّة والمعرفيّة، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلاّ عندما تترجّل النّخب الثقافيّة العربيّة من أبراجها العاجيّة، وتصبح أكثر قرباً والتصاقاً بالجمهور، الذي هو أٌداة ومنطلق أي مشروع إصلاح وتطوير في مجتمعاتنا العربيّة.
التاريخ: الثلاثاء6-4-2021
رقم العدد :1040