الثورة- مها دياب:
تعد المناسبات الاجتماعية والحفلات فرصة لتجسيد الفرح وتعزيز الروابط والعلاقات، حيث يجتمع الأهل والأصدقاء للاحتفاء بلحظات مميزة تحمل في طياتها الأمل والتفاؤل، ولكن حين تفقد هذه اللحظات إطارها الآمن، يمكن أن تتحوّل إلى مشاهد من الحزن والتوتر والخوف، وهو ما حدث في مدينة صحنايا، التي شهدت أحداثاً مؤسفة سابقاً، تركت آثاراً نفسية سلبية وخوفاً كبيراً لساكنيها، حيث طغت أصوات الرصاص على أجواء الفرح في حفل زفاف كان يفترض أن يكون مناسبة تجمع الأحبة في لحظة سعادة خالصة.
ما بدأ كمناسبة سعيدة لم يلبث أن انقلب إلى مشهد من الذعر والفوضى، إذ انهمرت الطلقات وسط هلع الحاضرين والسكان، ليتحول الاحتفال إلى لحظات مربكة، بعيدة كل البعد عن أمان كان يفترض أن يسود المكان، ومع تصاعد التوتر، تدخلت القوى الأمنية لضبط الأوضاع، لكن المواجهة لم تكن سهلة، حيث رفض بعض الحاضرين الامتثال للتعليمات، بل وصل الأمر إلى إطلاق النار باتجاه العناصر الأمنية، في تحدٍّ صارخ لسلطة القانون.
“ثقافة” الفوضى.. حين يتحول العنف إلى واقع يومي
السيدة رنا، أم لطفلين، تصف لـ “الثورة” كيف تركت هذه الليلة أثراً عميقاً في حياة أبنائها بقولها: “كلما سمع ابني صوتاً مرتفعاً، ينتفض كما لو أن الرصاص عاد ليطارده، حتى المفرقعات تجعله يختبئ خلفي، أما أخوه الأصغر، فقد أصبح يستيقظ ليلاً مذعوراً، يمسك بيدي ويسألني إن كنا في أمان، لم أعد أعرف كيف يمكنني أن أُقنعهما بأن الفرح لا يعني الموت”.
سامر، طالب جامعي، يروي كيف تحول الخوف إلى جزء من تفاصيل الحياة اليومية: “نحن نحاول أن نفرح مثل أي شعب آخر، لكن كيف لنا أن نعيش الفرح حين نعلم أن أي لحظة قد تتحول إلى مأساة بسبب فوضى السلاح” وحسن زميله يضيف: “لم تعد هذه مجرد عادة اجتماعية، بل أصبحت تهديداً صريحاً لكل من يتواجد في هذه المناسبات، ويجب وضع حد لها قبل أن يتحول الفرح إلى مأتم “.
وفي هذا السياق يحذر الإعلامي حسين صقر من أن انتشار السلاح العشوائي في المناسبات لا يقتصر على تهديد الأمن العام، بل يترك بصمة نفسية عميقة لدى الأفراد، خاصة الأطفال الذين باتوا يعتبرون هذه المشاهد جزءاً طبيعياً من الحياة اليومية. ويؤكد أن التكرار المستمر لمظاهر العنف يخلق بيئة غير مستقرة، تزرع الخوف والتوتر بين السكان، وتجعل الأمان شعوراً هشاً حتى داخل المنازل، مشدداً على أهمية وضع ضوابط قانونية صارمة تمنع إطلاق النار العشوائي وتحمي المجتمع من آثاره بعيدة المدى.
تأثير الفوضى على الصحة النفسية
المرشدة الاجتماعية نور حامد تحذر من أن انتشار هذه الظاهرة، يترك أثراً اجتماعياً عميقاً، قائلة: “عندما يصبح العنف جزءاً من ثقافة الاحتفال، فإن الأجيال القادمة تنشأ على فكرة أن القوة هي الوسيلة لحل النزاعات بدلاً من الحوار، وهذا أخطر ما يمكن أن يواجهه المجتمع”.
وتشير إلى أن الأطفال الذين ينشؤون في بيئة تتكرر فيها مشاهد العنف يصبحون أكثر عرضة للاضطرابات النفسية، مثل القلق المزمن والخوف من الأصوات العالية، كما يعاني البعض من العزلة والتوتر، ما يؤثر على نموهم العاطفي والاجتماعي. وترى أن الحل لا يقتصر فقط على فرض قوانين صارمة لمنع انتشار السلاح، بل يجب أن يرافق ذلك جهود مجتمعية وتوعوية واسعة، تشمل إطلاق حملات تثقيفية، وإدراج برامج تربوية في المدارس، وضرورة توفير دعم نفسي للأطفال، وتنظيم فعاليات مجتمعية آمنة من قبل المجتمع المدني.
غياب التشريعات: كيف سمح الفراغ القانوني بتفاقم الأزمة؟
المحامي فراس حميدو يؤكد لـ “الثورة” أن انتشار الأسحلة بين أيدي المواطنين خلال سنوات الحرب الطويلة، والفراغ التشريعي الذي حدث بعد التحرير ساهم بشكل مباشر في تفشي هذه الظاهرة، وسمح بانتشار السلاح دون رقابة، ما أدى إلى ارتفاع وتيرة الفوضى في المناسبات العامة.
ويشير إلى أن المشكلة لا تقتصر فقط على الأسلحة النارية، بل تمتد أيضاً إلى المفرقعات النارية التي باتت تستخدم بشكل عشوائي، مسببةً حالات هلع بين الأطفال وكبار السن، وكأنها امتداد غير مباشر للفوضى المسلحة، مطالباً بسن قوانين تدرجها ضمن تصنيف الأسلحة النارية، بحيث تفرض عليها قيود تمنع استخدامها في الأعياد والمناسبات العامة.
كما يوضح حميدو أن المرسوم رقم 14 لعام 2022، الذي جاء ليشدد العقوبات على حمل الأسلحة غير المرخصة، لا يزال سارياً، ولكنه بحاجة إلى آليات تنفيذ أكثر صرامة لضمان تطبيقه بفعالية، بحيث لا يقتصر على العقوبات وحدها، بل يشمل إجراءات لسحب الأسلحة غير القانونية وتجريم حملها خارج الأطر الرسمية، إضافة إلى تعزيز الرقابة الأمنية.
حلول لضبط الفوضى
ويرى حميدو أن الحل لا يقتصر على ضبط المخالفين، بل يجب أن يتضمن إجراءات واضحة لسحب السلاح من المدنيين وتجريم حمله دون ترخيص، قائلاً: “إن استمرار انتشار السلاح بين المدنيين دون قيود يشكل خطراً كبيراً على الأمن الاجتماعي، ويجعل الجميع عرضة للمخاطر حتى في لحظات الفرح، ويجب أن يكون هناك قانون واضح يمنع حمل السلاح نهائياً في المناسبات، ويضمن أن يبقى في يد الدولة والجهات الأمنية فقط”.
ويؤكد أن الحل لا يمكن أن يكون جزئياً، بل يتطلب تغييرات قانونية واسعة تشمل:
فرض عقوبات صارمة على المخالفين، تشمل السجن الفعلي ومصادرة الأسلحة غير القانونية، وتجريم حمل السلاح في المناسبات الاجتماعية، بحيث يكون انتهاك ذلك القانون جريمة يعاقب عليها بشدة، وتشكيل وحدات أمنية خاصة لمراقبة المناسبات العامة، وضبط أي انتهاكات فور وقوعها.
مناسبات خالية من الرصاص
في الختام تطرح الأسئلة نفسها وسط ضجيج الفوضى التي تخنق الفرح، هل ستعود المناسبات لمساحاتها الطبيعية، خالية من الرصاص؟ وهل يمكن للمجتمع أن يستعيد أمنه كواقع لا يحتاج لضمانات؟ لربما يكمن الحل في إرادة حقيقية لكبح الفوضى وإعادة الفصل بين الفرح والخطر، فالأمان ليس امتيازا، بل حق يصان بالقوانين العادلة والوعي المجتمعي الرافض للعنف. وحتى ذلك الحين، ستظل كل طلقة في سماء الاحتفالات شاهداً على غياب الضوابط، وكل خوف في عين طفل دليلاً على الحاجة إلى تغيير حقيقي.