السوسنةُ لا تغيب.. وسوريّة أجمل لوحاتها

 

الملحق الثقافي:إلهام سلطان:

“الفنُّ في عالمي هو الحياة، الألوانُ هي فرحةُ وبهجةُ حياتي، الزهور شخصيّتي الفنية.. أما سوريّة، فهي بالنسبة لي، أجمل وأبدعُ اللوحات..”.
كلماتٌ، للفنانة التشكيلية “سوسن جلال” التي رحلت منذ أيامٍ عن وطنها الذي كانت تتنفّسه، وفنّها الذي عاشت عمرها تعشقه.. هي تعرفهما، وتعرف بأن الحياة تنبثقُ وتحيا بهما.. لكن، ولمن لا يعرفها نقول:
لا يمكن لأيِّ إنسان يتعرّف عليها، إلا أن يشعر بسحرها ورقّتها وعذوبتها، وبأنها سيدة استثنائية، شفافة كالضوء، وعفويّة كالأطفال، وفي الوقت ذاته، قويّة وصلبة وواسعة الأفق والحزم والإرادة.
حضورها الملائكيّ..
ولحظة الرحيل..
أغمضت عينيها اللوزيَّتين المتعبتين، إغماضتهما الأخيرة، حاملة بين أهدابها حكاية أنثى من ضوء.. رحلت إلى عالمٍ نورانيّ، يليقُ بسموِّ روحها، وبهاء نبلها، وصدق إنسانيتها.
نظرتُ إلى جثمانها الملفوف بالكفنِ الأبيض، كانت تبدو كملاكٍ نائمٍ، بوجهٍ أبيض مشرق، وابتسامة تخيّم على محياها، تعلو جبينها هالةٌ من النّور، وكأنها تقول للآتِ: كن جميلاً ومضيئاً، كما تمنيتكَ دوماً.
رحلت السوسنة حاملة بين ضفتيّ روحها كلّ معاني الإنسانية، وتاركة عطرها يدثرنا بحبٍّ، افتقدناه في هذا الزمن الأغبر.
رحلت إلى عالمٍ آخر، وبقيت ريشتها التي عشقتها حتى الثمالة، ترقدُ على مرسمها بجوارِ الوانها ولوحاتها.. الريشة متَّشحة بالسواد، وكأنها تعرف أنها لن تغفو ثانية بين أنامل عاشقتها.. رحلت تاركة قوارير عطرها على مِساحةِ لوحتها، تروي تفاصيل علاقتها معها.
خبّأت كلّ ألوان ورودها في زرقة قواريرها، وكأنها تعلم أنها لوحتها الأخيرة.. “قوارير” التي كانت ترسمها بألوانٍ مختلفة تستمدُّ أغلبها من السّماء، فهي صامتة، هادئة، حزينة.. تركتها تتّكئ على مرسمها، تطلُّ على عتبات الباب، تستقبلكَ لتذكّرك، بأنها تنتظرُ الأنامل التي ستُنطقها.
مقعدها الخمري المعتاد في الصالون فارغ، ولكنّ عبقَ أنفاسها مازال يعبق في المكان، نظرتها البريئة مازالت تشعُّ معلنةً، أنا هنا رغم الغياب..
رحلت بصمتٍ ودون ضجيج، لا تريد أن تزعج أحداً. وضعت يدها على قلبها المتعب، أغمضت عينيها وهي تضع منديلها الأبيض، على فمها الذي اتّشح بحمرةٍ من رحيقِ دمها، وهنا كانت نهاية رحلتها في الحياة، لتنتقل إلى عالمِ الأبدية.
حُملتْ روحها على جناحيّ ملاكٍ راجعة إلى خالقها، كأنها نفحة عطريّة مرّت بنا كالبرق، تركت أثرها الوضّاء، وتحرَّرت من الجسدِ الصغير المتعب، الذي ما ارتاح يوماً في رحلة الكفاح، فقد أنهكه المرض وقسوة الحياة ومسؤولياتها، فهي عماد “آل الجلالي” وحافظة إرثهم الإبداعيّ..
تربَّت في بيتِ أشبه بمتحفٍ صغير، يمور بالثقافة والفنّ والإبداع والجمال، فقد فتحت عينيها على الورود والألوان واللوحات، مختلفة الألوان والأحجام. كانت الطفلة المدلّلة لوالدها الفنان النحّات المبدع “محمود جلال”، أحد روّاد الحركة التشكيليّة في سورية، ما جعل الريشة لعبتها، تجلس في حضن والدها، وتتابع رسوماته بشغفٍ، جعل الفنّ أبجدية عالمها..
الصدمة الأولى في حياتها، عندما كانت صغيرة واضطرَّت العائلة لظروفٍ خاصة أن تغيّر سكنها، وتنتقل إلى منزلٍ آخر.. منزلٌ سكنته جسداً، لكن روحها الطفولية، بقيت معلّقة بين جدران منزلها القديم..
كانت كلّ يومٍ، وبعد خروجها من المدرسة، تعود إليه وتطلب من سكانه الجدد، السماح لها بالدخول. تسير بخطواتها الصغيرة على طول مدخله، وتتجوّل بين غرفه، وتلعب في حديقته والدموع تملأ عينيها، ثم تخرج حزينة، على أملِ أن تعود إليه في اليوم الثاني، وهكذا مرت أيام طفولتها..
كبرت السوسنة، ودخلت كليّة الفنون الجميلة، فحلّقت في رحابها، وتعرّفت على زميلٍ لها في الجامعة، أحبّته وكان يعاني من مشكلةٍ في القلب، لتتفاجأ بعد قصةِ حبٍّ كبيرة برحيله، أخذاً معه نبضات قلبها، وتاركاً ذكراه.
لم تكن “سوسن” الفنانة الوحيدة في العائلة، فشقيقتها الكبرى “فايزة” فنانة تشكيليّة تعشق الرسم، ولها اسمها المميّز في الوسط الفنيّ، وقد عملت في التدريس لأكثر من ثلاثين عاماً.
النحات المبدع “خالد جلال” هو الأخ الوحيد في العائلة التي كانت تتكوّن من خمسِ بنات وشاب، سار على خطى والده في الفنّ، وتابع اختصاصه في النحت بإيطاليا، على أمل أن تنهي سوسن دراستها، وتلحق به لتوسّع آفاقها، لتكون الصدمة الكبرى في حياتها، رحيله إثر حادثٍ أليم، بعيداً عن أرضه وعائلته وسوسنته.
إنها المصيبة التي حولت روحها إلى رماد، فقد فقدت الأخ والسند، وبرحيله تبخّرت كلّ آمالها وأحلامها، لتواجه عالماً آخر مجهول الطريق.
أصبحت العمود الفقريّ للعائلة التي فقدت ابنها الوحيد وقوّتها، فرحيله كان صدمة مؤلمة للوالد الذي أُخفيَ عنه الخبر لفترةٍ طويلة، ومن يومها وحالته تتردّى أكثر، وكانت “سوسن” يده اليمنى وممرضته، لم تتركه قط، إلى أن فارق الحياة، فبقيت وحيدة تواجه جبروت الحياة وقسوتها.
كلّ ذلك والفن يرافقه، فقد كان بلسم جراحها، يضمّد روحها الثكلى، وينفض عنها غبار الألم…
ابتعدت عن كلّ مغريات الحياة ومباهجها، وتخلّت عن البعثة التي أتيحت لها، ورافقت الوالدة في رحلة مرضها الطويلة، وتفرّغت كلِّياً لها، وأيضاً حتى اللحظة الأخيرة من حياتها..
بعد فقدِ الوالدة، رهنت حياتها للفنِّ، وللفنِّ فقط.. وحيدةٌ وغريبةٌ إلا عن ريشتها ولوحاتها وعلبة ألوانها.. رسمت ورسمت فأبدعت، إلى أن تركت بصمتها الفنيّة المميّزة، داخل سورية وخارجها.
تنقّلت بين مختلف المدارس الفنية، الواقعيّة، الرمزيّة، التعبيريّة، وكان لها عالمها الخاص، من الخطوط والألوان والتكنيك والظلِّ والنور، حتى استقرّت أخيراً في عالم الزهور، لتهرب من هذا الزمن الأسود، وتداوي جراح روحها، وتلوّن حياة البشر، وتنفض عنها تعب السنين.
في يوم من أيام رمضان المباركة، يوم الخميس ٢٩/٤/٢٠٢١ وبحدود الساعة الوحدة ظهراً، رحلت بيّارة العطر، تاركةً خلفها متحفاً أثريّاً ضخماً، يحتوي على كنوزٍ إبداعيّة فنيّة ضخمة.. إرثٌ إبداعيّ لوالدها ولأخيها ولها، وحكايا أكثر من نصفِ قرن….
حلقت اليمامة بجناحين من ضوء، إلى هناك حيث البعيد البعيد، إلى ما وراء الأفق، لتشرق علينا كلّ صباح، وردة شاميّة ملوّنة، تداعب ندى الصباح فتذكّرنا بقول الشّاعر “محمود درويش”:
“لم يمت أحدٌ تماماً، تلك أشياءٌ تغيّر شكلها ومُقامها”..
آراء بعضُ النقاّد والفنانين، بأعمال الفنانة “سوسن جلال”:
الدكتور الفنان محمد غنوم:
الفنانة “سوسن جلال” ورغم أنها ابنة أحد رّواد التشكيل في سورية، إلا أنها استطاعت أن تكون شخصيّة مستقلّة ومختلفة، إضافة إلى أنها كانت من المدرّسّات المميّزات في كلية الهندسة المعماريّة، ما مكّنها من أداء الرسالة الفنيّة بشكلٍ جيد، باعتبار أن تجربتها مبنيّة على أسسٍ وقواعد علميّة، لتغدو أحد الروافد المهمّة للحركة التشكيليّة السوريّة، لامتلاكها هويتها الخاصة بها، ولا سيما في تطرّقها للزهور والورود..
الناقد التشكيلي سعد القاسم:
الرسم موهبة متجذرة عند الفنانة “جلال” باعتبار أنها من عائلة فنيّة لها باع في الرسم والنحت والشعر، وخاصة أن والدها الراحل “محمود جلال” ترك إرثاً فنيّاً يحتذى به، لكنها شكّلت ذاتها الفنيّة المستقلة، وصنعت لنفسها حالة فنيّة متفرّدة بخصوصيتها التعبيريّة، ما جعلها تستحق التكريم وبجدارة.
الفنان أديب مخزوم:
تجربة الفنانة “جلال” شهدت تنوّعات في المواضيع والنواحي الأسلوبيّة والتقنيّة، وهي متميزة في تطرّقها لموضوعٍ يتّصل بأزهارِ دمشق. الأزهار التي وثقتها من خلال معارضها، بطريقة حديثة ومعاصرة، مبتعدة عن إطار الواقعيّة التقليديّة.

التاريخ: الثلاثاء11-5-2021

رقم العدد :1045

 

آخر الأخبار
عادة الدقّ في ريف إدلب.. طقس الجمال والتراث الذي اختفى مع السنين الخزانة الأميركية تُنفذ قرار ترامب.. إزالة 518 اسماً وإعادة تصنيف 139 ضمن قوائم الإرهاب واشنطن ترفع العقوبات الشاملة عن سوريا.. خارطة قانونية جديدة للعلاقات الاقتصادية والتجارية دمشق.. العودة إلى الوطن بعد أربعة عشر عامًا من المنفى تأملات في العدالة والذاكرة ومستقبل سوريا التشكيلي مراد: الهواية تغذي الروح حين تمارس بشغف ترامب يُنهي العقوبات على سوريا ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة كأس العالم للأندية.. مفاجأتان من العيار الثقيل.. بطلهما الهلال و فلومينيزي قرار ترامب يفتح الأبواب لانتعاش اقتصادي استثنائي ويمبلدون (2025).. خروج مُبكر لمدفيديف وأُنس جابر وتأهل ألكاراز اليوم .. انطلاق البطولة العربية لسلة السيدات اليوم.. نهائيات سلة الرجال الثانية افتتاح أول فرن مدعوم في سراقب لتحسين واقع المعيشة " التنمية الإدارية" تُشكل لجنة لصياغة مشروع الخدمة المدنية خلال 45 يومًا تسويق  72 ألف طن من الأقماح بالغاب خطوط نقل جديدة لتخديم  5  أحياء في مدينة حماة مستجدات الذكاء الاصطناعي والعلاجات بمؤتمر كلية الطب البشري باللاذقية تحضيرات اللجنة العليا للانتخابات في طرطوس الوزير الشيباني يبحث مع رئيسة البعثة الفنلندية العلاقات الثنائية تناقص مياه حمص من 130 إلى 80 ألف م3 باليوم تحضيرات موتكس خريف وشتاء 2025 في غرفة صناعة دمشق