قصيدة الحداثة والمنبر

الثورة اون لاين – علم عبد اللطيف:

يمكن القول إن القصيدة الكلاسيكية قد أوجدت أداة توصيلها خلال مسيرتها، فالقصيدة التي أنتجها عصر الشفاهية، وُجدت بالأصل لتلقى على المنبر، لسببين، الأول.. هو أن الشاعر أساساً كان يتوجه إلى مجموعة من الناس، ليسمعهم قصيدته في مواسم معينة، في سوق عكاظ.. وفي مواسم الحج والتجارة عموماً، ويقدم نفسه وقصيدته لمستمعين، وكان الرواة يتناقلون القصائد ويقرؤونها لعامة الناس، وبرز من الرواة أسماء لا تزال تذكر في كتب الأخبار، كحماد الراوية، وغيره.
ولأن القصيدة كانت تُعَدّ أصلا للإلقاء من على المنبر، وتنتظر من يسمعها ويحفظها ويقوم بتوصيلها للعامة، فقد أوجدت أدوات مساعدة لحفظها في مرحلة الشفاهية التي لم تكن الكتابة معتمدة فيها، من هذه الأدوات القافية أولاً.. فالقافية عدا عن كونها تضيف قيمة جمالية أكيدة للقصيدة، فهي أيضا عامل مساعد للحفظ، بمجرد ذكر القافية يمكن تذكر القصيدة، وربما كانت مهمة تسهيل الحفظ قد أوجدت نظام البيت الواحد أيضا، وهو نظام عام في القصيدة العمودية يمكن من خلاله اجتزاء أي بيت من القصيدة والتمثّل به، وهو لا يتصل بما قبله أو بعده، وإن كان امتداداً للحالة الشعرية الواحدة في القصيدة، مثال هذا معلّقة زهير الشهيرة في الحكم والنصائح، وغيرها كثير، وهو أمر يمكن الاعتماد عليه في حفظ أبيات كثيرة دون حفظها كلها بترتيب ورود أبياتها، أيضا أوجدت القصيدة والخطابة أيضا، ظاهرة المحسّنات البديعية، وسميت هكذا لأن بديع الزمان الهمذاني أشار إليها كخصيصة أصيلة في القصيدة، تعادل البلاغة والبيان، منها السجع والطباق والجناس والتورية والتكرار والإطناب ورد العجز على الصدر أو العكس، وهي كالقافية ليست مجرد أداة للإبهار فقط، بل عاملا مساعدا في الحفظ، ولتناسب المنبر والإلقاء الذي يتوخى الحفظ والبقاء في الذاكرة.

helana.jpg
إذن نشأت ظاهرة المنبرية من طبيعة المرحلة الشفاهية التي تعتمد المنبر أولاً وأخيرا للتوصيل، ثم صار للمنبر تقاليده وأصوله التي يخدم فيها القصيدة ذاتها، وليس حفظها فقط، فالمنابر كانت بيوت الشعر التي تحدد مستوياته، وكانت منابر نخبوية (عكاظ).. مثلاً.. يقف عليها كبار الشعراء الذي يتبارون بتقديم الجديد من قصائدهم التي سموها الحوليات، أي إن الناس كانوا ينتظرون حولاً (سنة كاملة.
الآن.. هل ما زال المنبر أداة ضرورية للقصيدة في عصر الكتابة؟ وهل ما زالت أدوات المنبر أيضا لازمة في تقديم القصيدة، من طريقة الإلقاء والإبهار والتأثير بالمستمعين؟
لنقل إن عصر الكتابة يجب أن يكون له أدواته المختلفة عن عصر الشفاهية، فالقصيدة كتبت لتُقرأ، ووجدت مكانها في كتاب أو صحيفة، لتُقرأ أكثر من مرة، وتُعاد قراءتها، ويتم التمعّن فيها للوصول ليس إلى معنى محدد سلفاً أو معروف في القصيدة ذات البعد الواحد الذي تستقبله الأذن فقط، بل للوصول إلى معانٍ متعددة، وقراءات متعددة ومختلفة، يتيحها النص الحديث بعمقه وتعدّد أبعاده.
لكن المنبر مازال موجوداً، ولا يهم إن كان حاجة وضرورة للقصيدة، فهو تقليد راسخ راكمته عشرات القرون، وما يزال كثيرون يعتبرون أن القصيدة، والحداثية منها بالتأكيد، وُجدت ليسمعها الناس من على المنبر، وان المنبر أداة مهمة في توصيل القصيدة أكثر ربما من الكتاب، والمثال المهرجانات المختلفة في أكثر من مكان، التي تقام لتُقدّم فيها القصائد، ومن اللافت أن قصيدة النثر ذاتها تقدّم إلى الآن بذات الطريقة التي كانت تقدم فيها القصائد القديمة، وتُعتمد ذات الطريقة في الإلقاء والإبهار والتنغيم والتأثير في المستمعين، وكأن قصيدة الحداثة ما زالت تحتاج أدوات القصيدة القديمة.
المنبر التقليدي حقيقة يقدم الشعر بأشكاله، ومنها قصيدة الحداثة، ويبدو أن دوره في تقديم قصيدة النثر لا يقل في أهميته عن تقديم القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة، ويبدو أن دور المنبر في تقديم القصيدة الحديثة يتعلق بطبيعة التوصيل في المكان والزمان، فالإلقاء من على المنبر مازال ظاهرة تستقطب المهتمين أكثر ربما من الصحف أو الكتب الشعرية المطبوعة.
أيضا لم يتم الفصل بين منبري الحداثة والتقليد، إلا في بعض المهرجانات والفعاليات الأدبية التي تتقصّد تقديم قصيدة النثر أو غيرها بشكل محدد، وحتى في مجال التوصيل والنشر، فإن الدوريات من المجلات والصحف في كل المنطقة العربية، تقدم قصيدة الحداثة إلى جانب القصائد الأخرى دون تمييز.
المسألة تتصل كما يبدو لنا، ليس في نيّة الشاعر ذاته، وليس في معنى الشاعر أيضا، وإنما تتصل ربما في هدف وتوجّه قصيدة الحداثة، هذه القصيدة التي تتوجه إلى قارئ، فرد، وليس إلى جمهور، قارئ، يتعدد بعدد القراء، سيبحث في النص الحداثي عن معناه هو، وليس بالضرورة عن معنى حتمي ومسبق أراده الشاعر أو كاتب النص، وحقيقة هي من سمات الحداثة التي ابتدأت قبل ظهور قصيدة النثر، فهناك قراءات متعددة، لم تنته بعد، لأعمال كبار الفنانين والمسرحيين والشعراء، من دافنشي إلى شكسبير إلى بيكاسو إلى النفري.. وغيرهم.

saneya.jpg

يتطلّب هذا إذن، رعايةً وطقساً خاصا للاستمتاع والقراءة، هو طقس القراءة الناقدة المنتجة، أن تتحول المنصة أو المنبر إلى كرسي لدى قراء النص الجالسين حول طاولة مستديرة، مضافا إليهم الشاعر كأحد القراء، وبذلك فإن قصيدة النثر تجعل من القارئ سيدا حرا مستقلا ومنتجا مشاركا، وليس متلقيا مسلوب الإرادة.
المنبر هنا مكان توضع فيه قصيدة النثر حين تلوى رقبتها لتلقى من خلال منابر القاعات الاحتفالية والمهرجانات الجماهيرية المعدة للقصيدة الخطابية المباشرة، فتعيش قصيدة النثر غربتها وعدم انسجامها مع طبيعة المرحلة التي أنتجتها، فالشعر أصبح ظاهرة كتابية، وسيلة للتأمل بصمت، نقيض المنبر الذي يتجه إلى الخارج ويخاطب الجماعة. للكتابة جماليات مضادة تقوم على الهمس والصوت الخافت وثراء الحياة الداخلية، الكتابة تتجه إلى شخص قارئ مستقل بقصيدته وبقراءته وتأويله، لا جمهور الإنشاد.
راحت التجارب الشعرية الحداثية عموماً، تتخلى تدريجياً عن جوهرها الغنائي الصرف من خلال الانفتاح على الأصوات الغيرية وعلى أجناسيات فنية وأدبية وإعلامية مثل السيناريو والسينما والمسرح والرسم والنحت وفن التصوير الفوتوغرافي أو المنشور السياسي والإعلان التجاري، لكنها بقيت تنتمي في الجوهر إلى الغنائي.

آخر الأخبار
المركزي يصدر دليل القوانين والأنظمة النافذة للربع الثالث 2024 تحديد مواعيد تسجيل المستجدين في التعليم المفتوح على طاولة مجلس "ريف دمشق".. إعفاء أصحاب المهن الفكرية من الرسوم والضرائب "التسليف الشعبي" لمتعامليه: فعّلنا خدمة تسديد الفواتير والرسوم قواتنا المسلحة تواصل تصديها لهجوم إرهابي في ريفي حلب وإدلب وتكبد الإرهابيين خسائر فادحة بالعتاد والأ... تأهيل خمسة آبار في درعا بمشروع الحزام الأخضر "المركزي": تكاليف الاستيراد أبرز مسببات ارتفاع التضخم "أكساد" تناقش سبل التعاون مع تونس 10 مليارات ليرة مبيعات منشأة دواجن القنيطرة خلال 9 أشهر دورة لكوادر المجالس المحلية بطرطوس للارتقاء بعملها تركيب عبارات على الطرق المتقاطعة مع مصارف الري بطرطوس "ميدل ايست منتيور": سياسات واشنطن المتهورة نشرت الدمار في العالم انهيار الخلايا الكهربائية المغذية لبلدات أم المياذن ونصيب والنعيمة بدرعا الوزير قطان: تعاون وتبادل الخبرات مع وزراء المياه إشكاليات وعقد القانون تعيق عمل الشركات.. في حوار التجارة الداخلية بدمشق بمشاركة سورية.. انطلاق فعاليات المؤتمر الوزاري الرابع حول المرأة والأمن والسلم في جامعة الدول العربي... موضوع “تدقيق العقود والتصديق عليها” بين أخذ ورد في مجلس الوزراء.. الدكتور الجلالي: معالجة جذر إشكالي... بري: أحبطنا مفاعيل العدوان الإسرائيلي ونطوي لحظة تاريخية هي الأخطر على لبنان عناوين الصحف العالمية 27/11/2024 قانون يُجيز تعيين الخريجين الجامعيين الأوائل في وزارة التربية (مدرسين أو معلمي صف) دون مسابقة