الملحق الثقافي: د. ابتسام فارس *
أنت لديك تفكير أيديولوجي!.. هذه إحدى العبارات التي نسمعها في الكثير من الحواراتِ السياسيّة والاجتماعيّة، فماذا تعني؟:
الأيديولوجيا «هي مجموعة المفاهيم التي تكوّنها جماعةٌ من البشر، عن أوضاعها في ظرفٍ تاريخيٍّ معين. هكذا عرّفها المفكر العربي المختص في علم الأفكار «رشيد مسعود»، وهذا المصطلح ظهر في القرن التاسع على يد «دوتراسي»، فالكلمة تتكون من مقطعين «idea» وتعني فكرة، و«logos» وتعني علماً أو دراسة. وعند تركيب اللفظين، يصبح المصطلح «علم الأفكار» ويعرّفه «دوتراسي» على أنه: «العلم الذي يدرس الأفكار، بالمعنى الواسع لكلمة أفكار، أيّ مجمل واقعات الوعي، من حيث صفاتها وقوانينها وعلاقتها بالعلائم التي تمثلها».
وقد اتَّخذ المفهوم في بدايته، صفة الإيجابيّة لمجموعة الأفكار التي يحملها الفرد، ولكنه حمل دلالات مختلفة وسلبية عندما ارتبط بالمفاهيم التي ظهرت إثرَ اندلاع الثورة الفرنسية، وظهور حركات الاشتراكية والرأسمالية.
إن قضية الإيمان بفكرةٍ معينة في مجتمعٍ ما، وتبنّيها من قبلِ الأفراد، تعبّر عن فكرٍ إيديولوجيّ، وهذا ما يسمّى سياسة القطيع، دون الأخذ بالأسباب والنتائج، فالأيديولوجيّة باعتبارها طريقة للتفكير، أو مجموعة من الأفكار والمعتقدات التي يلتزم بها الناس في المجتمع، وهذه المعتقدات تصبح مسلمات أساسية في الحياة، لا تخضع للنقاش أو المعارضة حتى، والفرد في المجتمع يؤمن وينادي بها دون أن يملك الحجج والبراهين العلمية لما يقوله أو يعتقده.
لقد قام الكثير من الباحثين بتفسير هذا المصطلح، أمثال «عبد الوهاب المسيري» و»عبد الله العروي» من حيث استخدامه في اللغة الثقافية بين الناس، وخلصت معظم الآراء إلى أن الأيديولوجية، يمكن أن تعبّر عن:
– الوعي الزائف، الذي يتّخذه الفرد كشعاراتٍ يفسر من خلالها المواقف التي يتبنّاها، فهو بذلك يختبئ وراء قناعته الذاتية.
– الأحكام المطلقة والمعمّمة، التي تدعمها الفلسفة المجتمعيّة، والتي يجد فيها الفرد إطاراً ذهنياً مناسباً لأفكاره.
– الخلط المستمر بين الفكر والعلم، بين الاستنادِ على تجاربٍ علمية، وتفضيل المصالح الشخصية بما يتوافق مع الذات الإنسانية.
وقد رأى «فرويد» من وجهةِ نظرٍ نفسيّة، أن الأفكار (الأيديولوجيا) هي أوهام تخدعنا بها الرغبة الإنسانية لتصل إلى هدفها، وتعرية الأوهام من صبغة الحقِّ، التي يُلصقها بها العقل المخدوع، هو واجب العلم. بينما عبر «ماركس» عنها، بأنها قناع طبقي يُستخدم لتسويغ استغلال الطبقة العاملة، فالأفكار رموز لا تحمل حقيقتها، وترتبط الأيديولوجية بالسياسة، فلكلِّ سلطةٍ أيديولوجيا معينة، تحاول أن تفرضها على الناس، وتؤثر فيهم، وفي أفكارهم، وقد يؤدي الخلاف الأيديولوجي، إلى خلافٍ سياسي يصل إلى حدِّ الصراع بين الأفراد والجماعات المختلفة. بل إن علم السياسة، علمٌ قائم على الأيديولوجيا التي تتغير بتغير الزمان والمكان، والظروف المحيطة، ويرى علماء الاجتماع أن الأيديولوجيا وليدة الثقافات المجتمعية والاعتقادات السائدة فيها، وعند تبنّي أفراد مجتمعٍ لفكرةٍ معينة، يشكّلون طبقة فيما بينهم نتيجة لتلاقي أفكارهم، وهذا ما يفسّر انتماء مجموعة من الناس لها، داخل حزبٍ ما، بسبب الأفكار التي يؤمنون بها.
وقد ظهرت أنواع متعددة للأيديولوجيا حسب الغرض منها وهي:
– الأيديولوجيا العلمية.
– الأيديولوجيا الفكرية.
– الأيديولوجيا الطبيعية.
– الأيديولوجيا الدينية.
ويحدد «المطيري» مجموعة من السماتِ للتفكير الأيديولوجي، يمكن ذكر بعضها:
1- استساغة التناقض بين الأقوال، وبين الأقوال والأفعال: فليس كلّ ما يأتي على اللسان، ويكثر فيه الحديث يتمُّ تنفيذه، وقد عُرف هذا النوع سابقاً، باسم السفسطائيين الذين يتقنون فنّ الكلام والحوار، في ترتيبِ الجمل والتعابير، ولكن وقت التنفيذ يخالفون ما ينادون به.
2- غياب التمييز بين الفكر والواقع: فلا يميّز الأيديولوجيّ بين الفكر والواقع، فهو دائم الخلط بينهما، فلا يراعي في أفكاره واقعيّتها، ويعتقد أن كلّ ما يقوله أو يعتقده هو الصحيح، فهو يعيش وفق مخططات افتراضيّة خياليّة، لا تتماشى بأيِّ حالٍ من الأحوال مع أرض الواقع، ويُلاحظ هذا الأمر على سبيل المثال، عند الزعماء السياسيّين الديكتاتوريين، الذين يسعون لفرضِ آرائهم وأفكارهم ومخطّطاتهم، على مجتمعاتهم، ومجتمعاتٍ فقيرة أخرى. أيضاً، عند منظّري علم التنمية البشريّة، الذين يتلاعبون بعقولِ الناس ممن لديهم مشكلات متعلّقة بحياتهم الشخصية، وهم في الوقت نفسه غير قادرين على حلّ مشاكلهم، فالأيديولوجي يسعى للبحثِ عن تابعين ومنفّذين، وليس مفكّرين وناقدين.
3- الخلط بين أحكام الواقع وأحكام القيمة: فالأيديولوجيّ غالباً ما يُطلق الأحكام القيميّة التي لا تستندُ إلى المعرفة، والفرق بين الحكم القيمي والمعرفي، أن القيمي مهتمٌ بعطاءِ قيمة معينة، كالتحليل والتحريم والتجميل والتقبيح، بينما الحكم المعرفي هو حكمٌ موضوعي، قائم على الأحكام الوصفية المتعلقة بالوقائع والظواهر كما هي.
فالاقتناعات الأيديولوجيّة، ليست وليدة العقل بل وليدة الأهواء والمصالح والفوبيا والاستيهامات الجماعية، ولا تستخدم فيها أدوات وآليات البحث عن الحقيقة، فأغلبية الحديث عند الأيديولوجي، عن الفكرة بالجانبِ النظري فقط، دون العلم بكيفية تنفيذها، ما يجعله بعيداً عن الواقع.
وفي النهاية، هل ترغب بأن توصف بالأيديولوجيّ في عصرٍ كثرت فيه الأيديولوجيات في مختلف المجالات؟.. وأن تُكبِّل نفسك بأفكارٍ موروثة من جيلٍ إلى جيل، دون البحث والتفكير الواعي، عن مدى صدقها وواقعيّتها.
* أستاذ مساعد في كلية التربية – جامعة دمشق
التاريخ: الثلاثاء13-7-2021
رقم العدد :1054