الثورة أون لاين – ريم صالح:
“من الخطأ الاعتماد على أمريكا في حمايتنا، والاعتقاد بأن واشنطن ستواصل حمايتنا خطأ كبير، و إن أزمة الغواصات أظهرت أنه لا يمكننا الاعتماد سوى على أنفسنا”، هذا ما قاله حرفياً وزير الاقتصاد الفرنسي، برونو لو مير، في سياق الغضب الفرنسي الذي وصل حد استدعاء السفير الفرنسي لدى واشنطن، وإلى تصعيد كبير في الهجوم على إدارة بايدن، فما الذي نفهمه من كل ذلك؟.
هل وصلت العلاقات الفرنسية الأمريكية إلى نفق مظلم حقاً؟، أم إن كل ما يثار في الأروقة السياسية الفرنسية، وكل ما يتم الترويج له دبلوماسياً، لا يعدو عن كونه استعراضاً هزلياً لا أكثر ولا أقل لامتصاص حالة الاندهاش والصدمة الفرنسية الشعبية حيال الموقف الأمريكي الأخير، ونقصد هنا بالتحديد أزمة الغواصات؟ أو ربما كل ما يثار لا يعدو عن كونه زوبعة في فنجان، ومن مبدأ حفظ ما تبقى من ماء الوجه الفرنسي، هذا إن وجد أصلاً، لاحتواء الخسارة المالية التاريخية التي منيت بها فرنسا، باعتبار أن باريس، ومن منطلق كونها قوة استعمارية كانت، ولا تزال، فإنها تتوهم أنها حليف استراتيجي لأمريكا، وبأن واشنطن لن تقدم على أي خطوة من شأنها المساس بالمصلحة الفرنسية، وبأنها، أي فرنسا، وفي أي مشروع عدواني أمريكي، أو سيناريو للهيمنة، أو تهديد سلام وأمان للشعوب، أو أي كعكة نهبوية، فإن لها نصيبها التخريبي، ودورها الهدام المنوط بها أمريكياً، وحصتها المحفوظة، ولكن طبعاً تبقى بانتظار الإيعاز الهوليودي، وتحديد ساعة الصفر، والزمان والمكان.
ولكن أزمة الغواصات أكدت عكس ذلك تماماً، فالفرنسي ليس شريكاً من وجهة النظر الأمريكية، وليس حليفاً أيضاً، ولا يعدو عن كونه مجرد تابع، يمكن استبداله بأي نظام غربي آخر، متى اقتضت الضرورة، أو شاءت المصلحة الأمريكية ذلك.
وسواء تدهورت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين حقاً، أم إن ما يجري هو مجرد تمثيلية سرعان ما ستنكشف أبعادها، وتتوقف حلقات بثها، سواء هذا أو ذلك، فإننا لا نبالغ إذا قلنا أن ما جرى قد ولَّد أزمة ثقة بالمطلق بين أوروبا وأمريكا، وعلى ضوء ذلك تزايدت الدعوات الأوروبية لبناء جيش أوروبي موحد، بعيداً عن القرار الأميركي، ومتحرراً بالتالي من الأغلال البنتاغونية.
ولعل أزمة الثقة هذه التي نتحدث عنها هي مبرر زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن المرتقبة إلى أوروبا الشهر القادم، وطبعاً الهدف طمأنة خلبية لأنظمة الانقياد الأوروبي، فيما الشيطان الأمريكي يكمن كما اعتدنا عليه في التفاصيل، وما بين السطور، وفي الثغرات.
“طعنة في الظهر”، “خرق الثقة”، “معاملة غير لائقة”، “الكذب”، هي عبارات أطلقتها الدبلوماسية الفرنسية خلال الأيام القليلة الماضية للتعبير عن غضبها وخيبة أملها، ليس فقط من فسخ “صفقة” القرن مع أستراليا، ولكن من الأسلوب الذي عوملت به من قبل حليفها الأمريكي وشركائه أستراليا وبريطانيا على حد سواء، ففرنسا وبسبب حليفها الأمريكي خسرت أكبر عقد تجاري في تاريخها، حيث قدرته أستراليا نفسها بخمسين مليار دولار عام 2016، وهذه القيمة أعيد تقييمها لاحقاً نحو الأعلى لتصل إلى 89 مليار دولار.
الاتحاد الأوروبي وقف إلى جانب فرنسا في أزمتها هذه، وهو الذي كان قد اشتكى سابقاً من غياب تنسيق الحليف الأمريكي مع حلفائه، لاسيما بعد أسابيع من قرار واشنطن الأحادي بسحب قواتها المحتلة من أفغانستان دون استشارة شركائها.
وهنا علينا التنويه إلى أن دول الاتحاد الأوروبي قد حاولت مراراً الخروج من العباءة الأمريكية، ولكن على ما يبدو فإن هذه المحاولات لم تكن بالمستوى المأمول منها، فتاريخياً وتحديداً في عام 1966 انسحبت فرنسا من قيادة حلف شمال الأطلسي “الناتو” ما شكل زلزالاً هز وحدة حلف الناتو في وقت مبكر من تاريخ قيامه، وذلك بسبب أزمة وقعت خلال فترة رئاسة شارل ديغول لفرنسا حيث أحتج ديغول على الدور القوي الذي تقوم به الولايات المتحدة في الحلف، قائلاً إن فرنسا تريد انتهاج خط مستقل عن الحلف وسياسة واشنطن.
وأيضاً من بين المحاولات التي قامت بها دول الاتحاد الأوروبي لتبتعد عن وصاية واشنطن، ما عرف بالشراكة الأورو متوسطية إذ بدأت عام 1995 من خلال مؤتمر برشلونة الأورو متوسطي الذي اقترحته إسبانيا وقام الاتحاد الأوروبي بتنظيمه لتعزيز علاقاته مع البلدان المطلة على المتوسط في شمال أفريقيا وغرب آسيا ولكن الشراكة لم تستمر طويلاً.
أما في عام 2003، فقد أعلن الرئيس الفرنسي جاك شيراك والمستشار الألماني غيرهارد شرودر معارضتهما الشديدة لقرار أمريكا وحلفائها باحتلال العراق الأمر الذي اعتبره محللون حينها رسالة قوية اللهجة مفادها رفضهما سياسة “العم سام” في الشرق الأوسط ولم يتوقف الأمر عند باريس وبرلين وإنما بموقفهما هذا قادتا الاتحاد الأوروبي في هذا الاتجاه، حيث أعلن الاتحاد الأوروبي وقتها معارضته للجوء للقوة، واشترط أن تتم أي عملية عسكرية بتفويض من مجلس الأمن.