الملحق الثقافي:فؤاد مسعد:
الأعمال الدرامية التي يشارك فيها مبدعون وفنانون من مختلف الدول العربية أمر ليس بالجديد ، فهي ظاهرة تعود إرهاصاتها إلى أيام الأبيض والأسود إن كان في السينما أو التلفزيون تقوى حركتها أحياناً وتتباطأ أحياناً أخرى ، اشتد عودها في مرحلة تسعينيات القرن الماضي مع ازدياد وتيرة الإنتاج الدرامي تلبية لحاجة المحطات العربية الفضائية آنذاك ، فكانت تجربة تجمع بين طياتها نجوماً مبدعين تم تطعيم وجودهم ضمن العمل بنجوم من بلد عربي آخر (أو أكثر) ، حتى أن هناك أعمالاً تاريخية سورية صوّر جزء منها في أكثر من بلد عربي ، هي مرحلة كان العمل الدرامي العربي المشترك فيها ميّزة يُحسب لها ألف حساب ، وهدفه تحقيق حالة من التكامل الإبداعي وضمان الانتشار والتسويق ، وعادة ما كان يُبنى على أسس متينة من نص وإخراج وإنتاج ، ولكن هذا التعاون والتعاضد بدأ مع الوقت يأخذ أشكالاً وأبعاداً مختلفة عن المسار الأساسي خاصة في السنوات العشر الأخيرة ، وبات يُعرف باسم تجاري (مسلسلات البان آراب) .
ما لبثت أعمال (البان آراب) أن تكرست موضة قائمة بحدّ ذاتها تعيش حالة انتعاش متصاعد حتى اليوم ، هي موضة فُرِضت بحكم الأمر الواقع لرأسمال وجد فيها رهاناً ناجحاً على المستوى الإنتاجي ، لكن الفخ الذي وقع فيه العديد من إنتاجاتها (خاصة في البدايات) عدم قدرتها على إيجاد التبرير الدرامي المناسب لوجود ممثلين عرب بلهجاتهم المختلفة ضمن العمل الواحد ، مما جعلها تقف على المحك بين أن تأتي غريبة عن الناس وبعيدة عنهم وبين أن تقنعهم بالحالة التي تقدّ مها ، لذلك جاءت العديد من الأعمال هجينة غريبة وبدت مفبركة ومُركبة ، حيث نجد الخال المصري والعم السوري والابن اللبناني والأخ الخليجي مما يجعلها أعمالاً غير حقيقية في حين أن أساس نجاح العمل الدرامي هو الصدق ، وقليلة هي المسلسلات الهامة حينها التي تخطّت هذه الهنات والهفوات ، الأمر الذي تم تجاوزه في السنوات الأخيرة إلى حدّ كبير .
ـ هوية درامية
مما لا شك فيه أن (الهوية) واحدة من أهم ميزات العمل الدرامي ، أي أن يكون له هوية ظاهرة إن كان عبر اللغة أو المكان والجغرافيا أو البيئة أو ملامسة الواقع وطرح قضايا من صلب المجتمع ، ولكن مع تنامي إنتاج الأعمال الدرامية التي تضم عدداً من الفنانين العرب تراجعت هذه الميزة إلى حدّ بعيد ، إلى درجة أن هناك أعمالاً ظهرت بلا هوية تعيش غربتها مكتفية بما فيها من جماليات وإثارة ، تم إنجازها حسب الطلب وفق مقاييس معينة لتتناسب مع شروط العرض ، إن كان على الشاشة التلفزيونية أم عبر المنصات والمواقع المتعددة على الشبكة العنكبوتية . وأتت هذه الغربة لصالح إما الاستنساخ عن أعمال أجنبية أو إنجاز أعمال عُقّمت نصوصها لتتناسب مع الواقع الانتاجي الجديد لتلبي حاجة السوق .
ضمن هذا الواقع تُنجز أعمال تعاني من الترف ، ترف في كلّ شيء ، في التمثيل والإنتاج والإخراج وأماكن التصوير ، هي أعمال تدخل في نفق الخلطات الجاهزة التي تشمل مجموعة عناصر يمكن اللجوء إليها مجتمعة أو منفردة ، منها الانتصار لعرض الجمال والطبيعة والسيارات والأكشن والتشويق والإثارة والاستعراض والعنف وكاميرا تُظهر المعالم الساحرة إضافة إلى كم كبير من المصادفات غير المنطقية أحياناً التي يجسدها ممثلون تحنّطوا وتحوّل بعضهم إلى مجرد (موديلات) أو ديكور . وموضوعات تفوح من أحد أركانها رائحة الرقيق الأبيض أو التهريب أو المخدرات أو الخطف أو الأسلحة والأعمال غير الشرعية ، ولتكتمل الحبكة يتم جمع أسماء بعينها من فنانين عرب ومع القليل من البذخ الإنتاجي والدعاية والترويج ، هو مشهد يطغى عليه حالة (البزنس) إلا في حالات قليلة . حيث تجاوز الكثير من المنتجين فكرة الهاجس الإبداعي وأهمية تقديم المقولة أو الرسالة ووصلوا إلى قناعة أن المهم الرضوخ لما يتطلّبه (السوق) لأنه الأهم بالنسبة إليهم
ـ خرق إنتاجي
استطاعت هذه الأعمال إثارة الجدل حولها منذ انتشارها ، وقُدِم ضمن إطارها الصالح والطالح ، وشكّلت خرقاً على الساحة الإنتاجية حتى اعتُبِرت في أحد أوجهها بديلاً عن الأعمال المُدبلجة ، ووجدت أرضية خصبة لها عند جمهور هو في غالبيته جمهور الأعمال المدُبلجة الذي أحبها وتابعها ، هذه المؤشرات كلّها إضافة إلى ما يُحقق لهذه الأعمال من إنتاج ضخم يُعد حافزاً لأن تتفادى الوقوع في تقليد واستنساخ الأعمال الأخرى ، فلا بدّ أن تستفيد وتتعلم من أخطائها لتشذّب نفسها فتكون أكثر قرباً من الواقع ومن الناس الحقيقين لتحقق نجاحاً أكبر ، الأمر الذي تجاوزته أعمال بعينها حفرت لنفسها مكاناً على الساحة اجتمعت فيها مؤهلات النجاح بما فيها النص والإخراج والتمثيل ، ولكن هذه المؤهلات لا تتوفر كلّ مرة .
أخذت هذه الأعمال بالتبلور بشكل أكبر لتأخذ مداها على الساحة ، فباتت الكفّة فيها تميل إلى التكثيف وضخ جرعة أكبر من الإثارة والأكشن أو الكوميديا عبر (ثلاثيات وخما سيات وسباعيات وعشاريات) ، بحيث يتم تكليف كتّاب معينين لإنجاز نصوص تحمل أفكاراً بعينها ، ولكن مما لا شك فيه أن عدد الحلقات كثرت أم قلّت لن ينقذها من تهمة أنها أعمال تميل نحو (البزنس) ، والتحدي دائماً يتمحور حول مدى تبني الرأسمال هاجساً ابداعياً حقيقياً إلى جانب تبنيه الهاجس التجاري .
التاريخ: الثلاثاء7-12-2021
رقم العدد :1075