الملحق الثقافي:حامد العبد:
في خضم النقاش الذي شهدته المؤسسات التربوية والتعليمية خلال العقود القليلة الماضية عن ضرورة ربط مخرجات التعليم بسوق العمل، ذهبت بعض الآراء إلى التشكيك بجدوى تدريس عدد من التخصصات النظرية وفي مقدمتها الأدب، منطلقين من فكرة مفادها أن هذه المؤسسات يجب عليها أن تقدّم لطلابها مناهج عمليةً يتسلح بها الطلاب عند تخرجهم وانخراطهم في مجتمعاتهم، وأن تكون هذه المناهج مرنة في تعاملها مع تطلعات الحكومات التي تُدرس فيها من أجل التنمية والتطوير، وقد انتاب الكثير من هؤلاء المختصين الشعور بأن الأدب هو فن لا صلة له مباشرة بسائر العالم، وهذا الشعور في حقيقة الأمر ليس حكراً على طلاب دول العالم الثالث التي تلهث للخروج من قوقعة تخلفها، ولكنه أيضاً يجد طريقه في الدول المتقدمة التي تلهث بدورها لزيادة رفاهيتها المادية، على الرغم من أنها كانت صاحبة النظرة الأكثر توقيراً للأدب خلال القرون الماضية.
إذن نحن أمام صورة باهتة عن الأدب تصوّره على أنه مجرد علم لغوي مغلق على نفسه ولا يتحدث إلا عن ذاته، ولكن إذا تجاوزنا تلك النظرة السطحية عن الأدب فسنجد النتائج مغايرة تماماً لهذه الادعاءات.. فالأدب بحد ذاته ليس فناً غريباً أو طارئاً عن الإنسان لا يعرفه إلا بعد دراسته، بل إن الإنسان يطّلع على الأدب منذ نعومة أظفاره، إن كان باللهجة العامية من خلال استماعه لحكايات الجدات والأمهات التي تقدم كلمات وأفكاراً جديدة للطفل توضح له مدى تنوع العالم وغناه، وأنَّ هناك أناساً تختلف حياتهم عن حياته اختلافاً كبيراً الأمر الذي يساعده على تقبل الآخرين المختلفين عنه، أو من خلال الاستماع إلى الأغاني التراثية الأمر الذي يُحقق له متعة تتأتّى من طبيعة الأدب باعتباره فناً ممتعاً، وهذه المتعة هي التي يجب أن تستمر في صفوف الدراسة إذ تسهم في التقليل من أعباء الدراسة العقلية والعلمية على تفكير الطلاب، وتفتح أبواباً أكثر طرافة من أبواب القوانين الصارمة والمعادلات الجافة، كما أنها تسمح للطلاب أن ينسوا الضغوط والتوترات اليومية وتساعدهم على الانغماس في الخيال لحين من الزمن.
ومن المعروف ما للأدب من تأُثير في شعور وأحاسيس قرّاءه، فكثير من الحقائق التي يعرضها الأديب تجعل القارئ يرضى أو يسخط.. يحب أو يكره، وما للأدب أيضاً من قدرة على توسيع مدارك قرائه، وبالتالي فله عدة فوائد من ناحية اكتساب المعرفة، فكل عمل أدبي على مدار العصور المختلفة والحضارات المتنوعة، يحمل في طياته تجارب وخبرات أصحابها الذاتية أو الموضوعية، فتضيف إلى معارف قارئه معارف وإلى خبراته خبرات.
والأدب كفن أداته اللغة، يكسب الطلاب ثروة من المفردات اللغوية والصور الفنية تمكنهم من التعبير عن الأفكار المزدحمة في رؤوسهم بلغة سليمة، أو يوظفونها في أحاديثهم وكتاباتهم، وخصوصاً أن هؤلاء الطلاب باتوا يعيشون في عالم تتكاثر فيه الملهيات ووسائل تشتيت الانتباه، الأمر الذي يعزز ثقتهم بأنفسهم وبمستقبلهم، ويساعد الطلبة على فهم وتقبل مشاعرهم الخاصة وعدم الخجل منها، واعتبارها مشاعر طبيعية يجب التعبير عنها، بل ويزيد من قدرتهم على التعبير عنها.
كما أن الأدب يسهم في تهذيب ذائقة الطالب الفنية، وهذه المَلكة (إن جاز التعبير) لا تأتي من المعادلات والقوانين والرسوم البيانية، ولكنها تأتي من خلال قراءة روائع النثر والشعر، ولا ننسى ما للأدب من دور في غرس القيم في نفوس الناشئة وذلك من خلال تقديم النماذج والمُثل العليا لما يتضمنه من حكم وأمثال، متفوقاً بذلك على بقية الفنون نظراً لسهولة فهم معانيه وإدراك مغازيه، وهو قادر على إنجاز هذه المهمة بطريقة تلقائية وسلسلة، وذلك من خلال فعل القراءة فقط.
وفي مجتمعاتنا العربية تبرز الحاجة أكثر إلى تخريج أجيال من الطلاب المحصّنين ثقافياً تجاه الخطابات الخبيثة والمغرضة والمنحرفة، بدلاً من أن يتعلموا فقط العلوم التي تساعدهم على تعديل أوضاعهم المعيشية والاجتماعية، أو تسهّل عليهم نيل المكاسب الوظيفية.
بيدَ أن هذه الوظائف التعليمية للأدب تقف عاطلة عن أداء وظيفتها على أكمل وجه، ما لم يساعد في بلوغها كادر تعليمي مؤهل وقادر على أن ينهض بأعباء هذه المهمة لا بل ويرغب في ذلك، فبعض المعلمين لا يؤمنون كما ذكرنا بدور الأدب أوغير متحمسين لتدريسه، كما أن بعض ممارساتهم في الصفوف الدراسية تؤدي إلى نتيجة عكسية، فتجعل الطلاب ينفرون من الأدب ويرونه عبئاً ثقيلاً ينتظرون لحظة الخلاص منه بفارغ الصبر. ولعل من بين هذه التصرفات إهمال جوهر الفكرة العميقة التي يتناولها النص الأدبي، والاهتمام بتناول هذا النص بطريقة يعاد فيه اجتراره بشكل رتيب، دون الالتفات إلى الطالب نفسه كقارئ لهذا النص أو إلى آرائه حوله والأفكار التي أثارها فيه، ومصادرة رأيه وتلقينه الفكرة تلقيناً، الأمر الذي لا يشجع الطالب على التفكير المستقل واتخاذ روح المبادرة أوتنمية مهارة التفكير النقدي.
وفي الختام نستطيع القول إن هدف معظم العلوم ومادتها هو الطبيعة والأرقام، أم الأدب فهدفه ومادته هو الإنسان نفسه.. أحاسيسه ومشاعره.. أفكاره وهواجسه..آماله وآلامه، ومن هنا تكمن أهمية وظيفته في العملية التربوية والتعليمية التي تهدف قبل أي شيء آخر إلى جعل الطالب يدرك ذاته ويعي إمكانياته ليتمكن من استغلالها أو تحسينها، وأن تخلق من هذا الطالب إنساناً متحضراً ومحصناً فكرياً ومستعداً لبناء مجتمعه ووطنه على أحسن وجه، ومَنْ هو أكثر كفاءةً من الأدبِ في النهوض بهذه المهمة، والأكثرُ قدرةً على توسيع عالمنا وخلق طرق جديدة لتصور هذا العالم.. إنه بكل بساطة يعيننا على أن نحيا..
التاريخ: الثلاثاء18-1-2022
رقم العدد :1079