الثورة – عبد الحليم سعود:
لا يختلف متابعان بأن الولايات المتحدة الأميركية هي المسبب والمحرض الرئيسي لعدم الاستقرار والفوضى اللذين يسودان العالم حالياً ولاسيما في شرق أوروبا، إذ لا يجادل أحد في أنها هي من دفعت الأمور بين الجارتين روسيا أوكرانيا إلى المواجهة العسكرية في الوقت الذي كان يفترض أن تقوم أفضل العلاقات بين دولتين وشعبين ينتميان إلى حضارة وثقافة واحدة ويتعايشان معاً لقرون طويلة ضمن إمبراطورية واحدة، حيث أدى التآمر الأميركي المستمر على روسيا إلى العديد من المشكلات والاضطرابات في محيط روسيا الاستراتيجي، وما يجري اليوم في شرق أوروبا هو جزء من المخطط الأميركي لجعل هذه القارة أداة في يدها في الضغط على روسيا ومحاصرتها واستنزافها، حيث لم تكن تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن خلال الشهرين الماضيين عن تغيير النظام في روسيا مجرد زلات لسان لرئيس مصاب بالزهايمر وإنما اعترافات برغبات أميركية مكنونة.
رغم كل المحاولات الروسية خلال عقدين من الزمن وأكثر لفتح قنوات حوار وتواصل وتعاون مع الجانب الأوروبي وإقامة علاقات استراتيجية تؤمن مصالح الطرفين، إلا أن عدداً من الدول الأوروبية الخاضعة للنفوذ الأميركي حافظت على نهجها المعادي لروسيا والعائد إلى حقبة الحرب الباردة، وهو ما تجلى بالسعي لتوسيع حلف الناتو ليضم دولاً كانت تابعة للاتحاد السوفييتي كـ لاتفيا وليتوانيا وإيستونيا، ودولاً أخرى كانت جزءاً من حلف وارسو كبولندا وبلغاريا ورومانيا وهنغاريا وتشيكيا وغيرها، الأمر الذي برهن أن هذه الدول لا تزال تتصرف بعقلية الحرب الباردة، فبدل أن تكون على الحياد في التنافس المستمر بين روسيا والولايات المتحدة نراها اليوم وقد اختارت أن تكون طرفاً فيه، حيث يصدر عنها مواقف وتصريحات تجاه روسيا لا تقل عداء واستفزازاً عن التصريحات الأميركية..!
اليوم ثمة من يسأل هل انتهى الحياد في أوروبا بحيث باتت أوروبا كتلة واحدة بقيادة واشنطن لمواجهة روسيا، في الواقع الضغط الأميركي على الدول المحايدة وتلك التي حاولت أن تمسك العصا من المنتصف لم يتوقف، وهذا ما لاحظناه عبر رغبة كل من السويد وفنلندا بالانضمام إلى حلف الناتو، ونزوع دول أوروبية أخرى للمشاركة بالصراع الدائر حالياً إلى جانب أوكرانيا رغم كل المخاطر الهائلة التي قد تنجم عن ذلك، بما في ذلك حرب عالمية جديدة تغطي كل أوروبا.
فقد قوبلت تصريحات مسؤولين في فنلندا والسويد بشأن دراسة انضمام البلدين إلى (الناتو) بترحيب من الحلف. وبدا ذلك جلياً في تصريح الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ الذي قال: “سيتم الترحيب بفنلندا والسويد بأذرع مفتوحة في الناتو”.
اللافت أيضاً أن الضغط الأميركي قد وصل إلى سويسرا التي تعد التجسيد الحقيقي لمبدأ الحياد الدولي والنموذج الأفضل للدولة المحايدة، بحيث تخلت عن هذا الحياد بانضمامها إلى نظام العقوبات، إذ قررت في 28 شباط الماضي تبني الحزمة الكاملة من العقوبات الأوروبية على روسيا.
أما النمسا التي أعلنت حيادها عام 1955 وهو كان شرطاً أساسياً لانسحاب قوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية، نراها اليوم تتعهد بتسليح الجيش الأوكراني وتعزيز قدراته في حربه مع روسيا، وكذلك تفعل السويد وغيرها من الدول التي عرف عنها الحياد، وهذا مؤشر خطير قد تكون له تداعيات خطيرة في قادم الأيام.
كل ما كانت تطلبه روسيا من الولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو في الفترة الماضية هو الكف عن ضم المزيد من الدول في محيطها الاستراتيجي إلى الناتو ووقف حالة العداء، لكن الناتو الذي تغلب عليه النزعة العدوانية المنسجمة مع النزعة العدوانية الأميركية يحاول صب المزيد من الزيت على النار، وهذا ما يعرض مصير كوكب الأرض للخطر، إذ لا تستطيع البشرية تحمل أعباء حرب عالمية جديدة بالنظر إلى التطور الخرافي في منظومات الأسلحة التي يمتلكها كل طرف.. فهل تعي أوروبا خطورة انخراطها المتزايد في الصراع وتتوقف عن المغامرة بمصيرها ومصير العالم، أم تنزلق كالأعمى إلى حقل الألغام الذي تزرعه واشنطن..؟!.