الملحق الثقافي: غسان كامل ونوس:
لا يمكن لطامح ثقافيّ أن ينكر ضرورة وجود نوافذ أكثر، يمكنه الإطلالة من خلالها، وليس منطقيّاً ولا متوقعاً، أن يتغافل عن أهميّة أن يكون في إمكانه تقديم ما يريد، حين يريد، من دون انتظار موافقة، قد تستعصي، ورضا قد يتعذّر؛ من قبل أيّ مسؤول ثقافيّ أو غير ثقافيّ، في أيّ معبر إجباريّ، ومن أيّ درجة، وحتّى لا نجافي الحقيقة، لا بدّ أن نقول: إنّ في بعض تلك المعابر حرّاساً واعين لقدر المهمّة الموكلة إليهم، لكنّ المتطلّبات أكبر من قدرات مواقعهم المادّية واللاماديّة، ويجهدون للقيام بما يمكن؛ كما أنّ كثيراً من القائمين بها أو عليها، في مفازات أخرى، ليسوا مؤهّلين للنهوض بما هو مطلوب ومرتجى، ولا يمكن لحريص أن يدّعي أنّ من واجب أيّ مسؤول ثقافيّ، أن يقدّم كلّ من يرغب في أن يكون له حضور في المشهد، إلى الناس، بصرف الاهتمام عن موهبته وإمكانيّاته وجدواه، فهذه مسؤوليّة أخلاقيّة وثقافيّة ووطنيّة وإنسانيّة، من دون أن ندخل- هنا- في متاهة الأسئلة حول من يمكنه أن يقدّر هذه الموهبة، ويقرّر تلك الإمكانيّة، وهل يمتلك القدرة على ذلك؟! وبأيّ مسبار ينظر؟! ومن أيّة زاوية؟! ففي اعتقادي أنّنا لا نختلف على أنّ في كلّ ميدان حياتيّ- والثقافة هي الأهمّ- جديرين وطامحين وحالمين وطامعين ومتطفّلين ومدّعين ومظلومين وظالمين… فماذا ستكون النتيجة، إذا ما فتحت الأبواب لهؤلاء جميعاً، وصارت الممرّات كلّها سالكة وآمنة؟! لا شكّ في أنّ الدروب ستكتظّ بهؤلاء وسواهم، يتسابقون، ويتدافعون، وقد يتحالمون، ويتخاصمون، ويتواجهون، ويجاملون، ويتمسّحزن… ومن الطبيعيّ أنّ من يحترم نفسه، يمكن ألّا يغامر بالمشاركة في ما يتخبّط فيه مثل هذا الحشد، الذي تزداد فيه احتمالات أن تشوّش المعايير والأحكام والقيم، ويقلّ المقيّمون الموضوعيّون، والمقتنعون القابلون للحوار والاستماع والاستيعاب والتحصين المعرفيّ والوجدانيّ.
صحيح أنّ هذا المحترم نفسه، كان كذلك، قبل هذا الانفلات المشهدي التعبيريّ، وتردّد في الطلب إلى أصحاب النفوذ غير اللائقين بأن يقرّروا مصيره! لكنّه قد لا يتردّد في أن يعرض ما لديه، في المساحة المتاحة من خلال نافذته الخاصّة، لمن يعنيهم الأمر، بالشكل الذي يرضيه، وفي الوقت الذي يراه، وبسرعة قياسيّة، وهناك من يطلبه، أو ينتظره، أو لا ينتظره، ويهمّه أو لا يهمّه ما يُعرض، في أيّ مكان من العالم، وهذه فضائل لا يجوز تجاهلها، تقدّمها الشابكة الفضائيّة كلّ آن، لكنّ هذه الإمكانيّات متاحة للآخرين، في الوقت نفسه، ليقدّموا ما لديهم، وهم، في الغالب، أكثر حماسة ورغبة واستسهالاً وتسرّعاً ووقتاً وشهيّة، ومقرّبين وعابرين و»أصدقاء» و»معجبين» ومعلّقين… فما الذي سيحدث للأوراد الطبيعيّة الأصيلة المشبعة المندّاة، المتشبثة بالأصص القشّيّة أو الفخّاريّة، أمام ساحات لا محدودة تكتظّ بأشكال من الأزهار الزاهية المصنّعة دائمة البهرجة والأضواء والميس في سبائك مذهّبة؟! وكيف سيهتدي المهتمّون إلى النتاج الذي يستحقّ فعلاً؟! ومتى؟! وكيف سيصطاد العابرون من أصحاب الكار جواهر من بين الكثير الكثير من الخبث؟! إنّ الأمر يدخل في نطاق الاحتمالات المعقّدة، والمصادفات غير المضمونة، ولا يمكن البناء عليها في الوصول المجدي إلى مواهب جديدة، وأصوات واعدة، وحتّى حين تقصد أن تصل إلى ما لديك معرفة به، أو سمعت عنه، أو قرأت، سيعثرك كثير من طحالب ومغريات ومعالم وحشيّة، وأشواك ومتاهات، يمكن أن تنسيك ما تبتغي، أو تلهيك عنه زمناً غير قليل، وتستنزف الجهد والعرق والراحة واللهفة والأمل والرغبة، ويا له من ثمن!
ولا يتوقّف الأمر على من يرشّ أفكاره وآراءه ونصوصه بغزارة وتسرّع وكثافة، من دون تدقيق وتصحيح وتشذيب، ومن دون مراجعة، ربّما، ويهرق وقته في الاستمتاع بما ينهمر على موقعه أو صفحته، من ردود أفعال غير مسؤولة، لقاء ما نشره، والردّ على المقرّظين بلا حساب، كما لا يقف عند من ينثر عواطفه ومشاعره ومواقفه، وظروفه وأحواله، ومختلف فصول حياته، وصوره ونشاطاته، وما يعدّها إنجازات… بل عمد كثيرون إلى اعتماد أنفسهم مرجعيّات ثقافيّة، وأصحاب مراكز وقرارات، ومسؤولين عن منتديات وملتقيات، بمختلف المسمّيات المبالغ في ترصيعها وتعميمها، يمنحون شهادات عليا وألقاباً فاخرة، ويقيمون مسابقات دوريّة ارتجاليّة أو نصّيّة، وفي أوقات متقاربة، وفي مختلف الأجناس الأدبيّة، وأنواع الفنون والتعبيرات الثقافيّة، وأعرف عدداً من المانحين، والممنوحين، غير المؤهّلين لهذا، للأسف، كما شاركتُ منذ زمن في أكثر من تجربة، دُعيت فيها إلى تحكيم أدبيّ، كنت أعتقد أنّها بريئة، إلى أن اكتشفت أنّها، للأسف الشديد، ليست كذلك!
صحيح أنّ الشابكة قد أمّنت تراسلاً أسرع بما لا يقاس، من الطرق التقليديّة، وهذا ما سمح بتواصل أكبر، وإسهامات أوسع وأكثر، وتعدّد في الرؤى، وغزارة في المعلومات والمعطيات، القديم منها والمستجدّ، كما أتاح المجال أمام قليلي التنقّل والسفر، بسبب شحّ أو التزام وزهد، لمقاربة مصادر وموارد وملتقيات متنوّعة وراهنة، ومتابعتها مباشرة، وربّما التواصل والحوار معها؛ بدلاً من انتظار وصول أخبار عن حيثيّاتها ومجرياتها ومخرجاتها، بعد حين قد يطول؛ كما أتاحت هذه الروابط الإلكترونيّة، التعرّف إلى الجديد المفيد في مختلف المجالات الثقافيّة والعلميّة وسواها.
لا شكّ في أنّ حيويّة انتشرت، وحراكاً تضاعف، وإمكانيّات توافرت، وسبلاً تفتّقت، وتتفتّق، ومعابر أقيمت، ورايات أشرعت، ولقاءات وحوارات أقيمت، وتقام عن قرب وبعد، وأسواقاً فتحت، ومديات توسّعت، وتتوسّع باطّراد، أمام الساعين بموهبة وهاجس ولهفة وجدّ وإصرار وعزيمة إلى حضور ثقافيّ حقيقيّ وفاعل؛ بفضل هذه القدرات الفضائيّة، غير المحدودة.
ولكن، إلى أيّة درجة يمكن أن تُحسب الجدوى من هذا نسبة إلى ما يُعرض؟! وكم هي الخسائر من الحميميّة والألفة والمشاعر، في القراءة والكتابة والنشر واللقاءات المباشرة بأنفاس وحواس؟! وإلى أيّ حدّ يمكن الوثوق بما يقال، ويسوّق؟! وإلى أيّ مستوى يمكن الاعتداد بما يطيّر من بسط ملوّنة في الفضاء، وما يروّج ويدبّج من إطراءات ومدائح في الهواء؟ وما الذي يتبقّى من أحقّيّة الألقاب والشهادات والتقديرات وقيمها؟! وكيف يمكن التيقّن من صوابيّة التقييمات؟! وما الذي يتبقّى من معنى الكلمات والعبارات والصفات، التي تُسفح على الصفحات المتلألئة الملوّنة؟! وكم ستسعد بها، إذا ما رأيتها توجّه إليك؟! وكم هو الوقت الذي تمضيه في حذف ما لا يهمّك، ولا يني يطوف على موقعك؛ رغبتَ أم لم ترغب؟! وكم سيؤثّر هذا الانفجار الكمّي العاطفيّ المتّصل المشكوك فيه على الذائقة العامّة؟! وإلى ماذا ستنحرف المورّدات والمصادر والأساليب والأشكال بسببه؟! وكيف سيؤثّر على بيدر المفردات، وغمر الصياغات؟! وهل ستتغيّر الرؤى والمناظير والمقاييس؟! وهل هذا تفعيل للمشهد الثقافيّ؟! أو هل هو التفعيل المأمول؟!
إنّ الانفتاح الشامل، يؤدّي إلى الفوضى، وظهور النفثات التي تعبّر عن مختلف الكائنات، في مختلف الظروف والحالات، ولا يمكن أن نقول إنّ هذا إلى حين؛ فهو في اندفاع بلا هوادة في اتّجاه مضاعفة الإمكانيّات والانفعالات والمداخلات الصحّيّة والعليلة، البريئة والملغّمة، الصادقة والمجامِلة، المهتمّة وغير المبالية… وسيكون من العسير الفرز الموضوعيّ الثقافيّ المسؤول. إنّه الواقع، يفرز ما لديه، ومن يمكنه قبول تحدّي التنقية والتصفية وحسن الاختيار، والاستمرار في هاجسه وتوقه ورؤياه، لا شكّ في أنّه مغامر غير محسود!
مع ذلك، لا يمكن الاستسلام، والانكفاء إلى الهامش والسلبيّة والقنوط؛ وترك الساحات للمغامرين من نوع آخر، اللاهين اللاهثين العابثين في المسارات والمحمولات والمصائر، وليكن طيب احتراقنا طوّافاً على مسامات الأشهاد.
نعم لفضائل هذه المواقع، ولكثير من الكنوز، التي كانت بعيدة عن المتناول، ولا للهشاشة واللغو والأعطيات المزيّفة؛ لو كنّا نستطيع!
التاريخ:الثلاثاء17-5-2022
رقم العدد :1095