الملحق الثقافي: نبيل فوزات نوفل:
لعلّ أهم ما يميز ثورة الاتصالات والمعلوماتية، التي يشهدها العالم اليوم ، هو السرعة الكبيرة في التحولات التي تشهدهامن خلال شبكات اتصال متنقلة وفائقة السرعة وتلاشي فكرة السيادة الوطنية بشكلها التقليدي، وكسر كلّ الحدود والحواجز بين الداخل والخارج، وباتت اليوم أحد أهم وسائل الحرب الناعمة التي تستخدمها القوى الاستعمارية في حروبها، وهناك أثار إيجابية وأخرى سلبية تركتها على الفكر والثقافة ونواحي الحياة الأخرى وسنركز على تأثيراتها في الفكر والثقافة ، فالآثار السلبية على الفكر والثقافة يمكن إيجازها بالآتي:
نشر الفكر المهزوز الرخيص الذي يدب الخلاف بين الناس، ويضرب مرتكزات المجتمع وهويته الحضارية ونشر الفرقة، وكانت سلاحاً بيد المرتزقة لنشر الشائعات وانعكس ذلك على نوعية الفكر والأدب ، والفنون بأنواعها فساد الهابط وانتشر على حساب الرزين والفاعل والجيد، لذلك بتنا نشاهد ونقرأ ونسمع من يشكك بوجود أمته وآخر يدعو لاستعمارها وآخر يطالب بقتل فئات من أبنائها،وانتشرت حالة اللامبالاة وضعف الانتماء الوطني والقومي والتفريط بالثوابت والمقدسات مقابل النظرة المادية للحياة فأصبح اهتمام الآكثرية هو الخلاص الفردي وإن غرق الآخرون ،وانتشرت المستوطنات الفكرية والثقافية تحت بدع مختلفة، وكما نعلم فإن الحرب الناعمة تهدف فيما تهدف إليه تدمير الهوية الثقافية والفكرية والقيم والأخلاق والقناعات بأساليب متنوعة ومتعددة غير عسكرية و إيجاد التردد والشك في قلوب وأذهان الناس، وهي الحرب بواسطة الأدوات الثقافية المتطورة والمعاصرة، والحرب عن طريق الاختراق، والكذب ،ونشر الشائعات، وهي حرب لإحباط الناس من النضال، أي هي إقدام عمدي ومدبر لأجل التأثير في القلب والعقل، والإيمان والقيم، أو الحدود الإيمانية العقائدية والثقافية المقبولة من قِبل البلد المستهدف، أي هي الانهيار من الداخل، وتلعب دوراً في إضعاف الحلقات الفكرية والثقافية للمجتمعات والمجموعات المستهدفة القادة والنخب وعامة الناس، وتؤدي إلى سلب اعتقاد الشباب في المجتمع ،وجرهم نحو الابتذال والفساد الأخلاقي، وحذف التفكير الفعال في مواجهة الغرب الاستكباري، وإضعاف الثقافة الوطنية ، وإيجاد صورة مظلمة حول مستقبل الدولة المستهدفة، و ترسيخ الشك في قلوب وأذهان الناس، وتهديم الحصون المعنوية ، وتبديل نقاط القوة إلى نقاط ضعف، وجعل الناس متشائمة ، وبث الاختلاف في المجتمع ،ودب اليأس فيه، وفقدان الأمل ، وصرف ذهن الناس عن عدوهم الحقيقي، وإلغاء التفكير الفعال الذي يشكل خطراً على الغرب،وإيجاد صورة مظلمة حول مستقبل البلد لدى الشعب، وإجهاض المقاومة وروح المقاومة ، وتنمية الاختلاف والتقاتل بين الناس و الحماية المعلنة للأصوات المخالفة لنظام الدولة المستهدفة من قبل أعلى مستويات القرار الأميركي ،والتشويه والإساءة لصورتها في الخارج عبر طرق متنوعة،ومحاولة إعطاء المشروعية والانتشار والتمكين للمؤسسات غير الرسمية الحاضرة في البلد المستهدف والمعارضة للنظام،والتدخل الواسع في الأمور الداخلية فيها في مجال الانتخابات، وحقوق الإنسان ،والمرأة، ووسائل الإعلام، وتهديم أفكار وعقائد المجتمع المستهدف كي تضعف حلقاته الفكرية والثقافية ، و قلب وتغيير الهوية الثقافية، وتشتيت المجتمع فكرياً وثقافياً وسياسياً واستغلال الشرائح الاجتماعية ضد بعضها البعض، لتحقيق هذه الأهداف لا بدّ من نشر عدد من المفكرين المتغربيين والمتطرفين ونشر المقالات والدراسات في المجال النظري الهادف إلى التشكيك بعناصر القوة لدينا وبث الأفكارالتي تهدد الذات والهوية الحضارية والشخصية للإنسان والهجوم على أمهات العقائد، والأسس الثقافية للمجتمع، و استهداف الهوية ، والهدف هو السيطرة على الإنسان بشكل كامل من خلال تجريده من هويته وتفريغه من محتواه، ومبادئه وأخلاقه،وتحويله إلى مجرد حيوان لاحرية ولا كرامة ولا استقلال له ،وكان دورها الأخطر في-تستطيح الثقافة بحيث يمتلك كلّ فرد معلومات طفيفة عن الموضوعات والظواهر المهمة وذلك بسبب كثرة عرض المعلومات التي تقلل من تركيزه على مادة معينة،وذوبان الثقافات المحلية وسط بحر الثقافات العالمي، وبالتالي غلبة الثقافة الغربية المستوردة. وتحول الثقافات المحلية إلى مجرد شعارات وقشور وشعور الجيل الشاب بالاغتراب نتيجة الشعور بالفوارق الكبيرة في التقدم بين مجتمعه المتخلف والمجتمعات الأخرى، وعجز وسائل التنشئة والتعليم القديمة.. ونكوصها أمام قوة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت تشكل 85% من ثقافة الطلبة،وساهمت مواقع التواصل الاجتماعي السماح لقوى العولمة التغلغل في المجتمعات ونفث سمومها الخبيثة و أفكارها في عقول البلدان النامية وانتشار الهوس الفكري والضجيج الذي قد يدفع الإنسان إلى العودة للأديان بحثاً عن الراحة النفسية، ما ساعد على انتشار النمط الأمريكي وأمركة الثقافة في معظم دول العالم.
وكما نعلم قادة الرأي يعتبرون عناصر نموذجية مميزة وسط الجماعات التابعة لهم، ونظراً لأنهم بمثابة وكلاء لنقل المعلومات إلى هذه الجماعات، فينجذب إليهم الناس للرأي أو البحث عن النصح والمشورة، ويمارسون تأثيرهم على الجماهير بشكل متكرر بما يسهم في تحقيق الاستقرار داخل الجماعة، كما لهم قدرات في التحكم في اتجاهات الآراء الجماعية نحو مختلف القضايا لذلك تستخدم القوى الاستعمارية بعض قادة الفكر والرأي عبر مواقع التواصل الاجتماعي كأداة هامة وتعمل على تسخيرهم لخدمتها مقابل إغراءات معينة .
كما تساهم وسائل التواصل الاجتماعي في بلورة رأي عام دولي لبعض القضايا، وباتت أحد أهم الفاعلين الدوليين ولم يعد تأثيرها يقتصر محلياً بل أصبح دولياً ، وفي كثير من الأحايين منصات للتضليل الإعلامي وتضليل الرأي العام ، وتوظف في نشر التطرف والترويج لخطاب الكراهية، كما جرى فيما يسمى ثورات الربيع العربي ويمكننا القول: إن مواقع التواصل الاجتماعي منصات لإطلاق الأفكار السطحية السريعة دون تدقيق -إلا ما ندر- فهي لا تعطي غالبا أراء عميقة ، وينشدّ متصفحوها الى الدردشات أكثر من ميلهم للقراءة الواعية الصبورة المليئة بالعبر،ما يعني أن الكِتاب باعتباره الوسيلة الأقدم لتبادل الافكاربين الناس، قد فقد أهميته وصار الاطلاع عليه مقتصراً على شريحة صغيرة من الناس مقارنة بمن يهتمون بمواقع التواصل الاجتماعي، اذا استثنينا الطلبة باعتبارهم مجبرين على التعاطي مع الكتاب أكاديميا، وبالتالي فلا يمكن إنكار التحول الكبير في طريقة التفكير وأنماط الكتابة التي أحدثتها مواقع التواصل الاجتماعي، لكن هذا التحول ليس ايجابيا للأسف، فهي ببساطة ليست مبوبة ولا منضبطة، وستميت لدى الاجيال المستقبلية القدرة على التأمل، وهذا الاخير هو جوهرة الابداع، ومن ثم فإذا استمرت هذه المواقع مستحوذة على اهتمام الناس سنشهد تراجعاً أكبر في مجالات الثقافة والفكر، وأنماط التفكير .أما النتائج الإيجابية لمواقع التواصل الاجتماعي فتتجلى في تبادل الخبرات،نشر الإعلانات،حملات التوعية،خلق فرص عمل،توسيع دائرة العلاقات الاجتماعية،وتقليل الحواجز بين الناس،تشكيل الرأي العام،ومتابعة أخبار العالم،وتقديم الإرشادات بشكل أفضل للناس،والمساهمة في التعبئة السياسية والاجتماعية إن استخدمت بالشكل المطلوب . وهناك من يتفاءل بمستقبل الثقافة والفكر في ظلّ هيمنة الوسائط الاجتماعية من خلال السماح للمنتج الثقافي بالانتشار والوصول إلى ملايين الناس، وأعتقد أن وسائل التواصل غيرت من وضعية الجمهور والتفاعل وباتت هذه القضية أوسع من الجغرافيا التي يعمل من خلالها قادة الفكر والرأي فقط ما علينا إلا أن ننظر للجانب الإيجابي لتلك الشبكات وتعظيمه والاستفادة منه وتوجيهه إلى الاتجاه الصحيح. جعلت صاحب القضية قادر على مخاطبة جمهور بعشرات الملايين سيتفاعل معه إن أحسن عرض قضيته أو هدفه أو مظلوميته، كلّ ما علينا أن نتعلمه كيف نحسن استخدام هذه الوسائل في الهدف المرجو كعمل تقني واحترافي.والسؤال الهام أمام هذه الأخطار التي تولدها مواقع التواصل الاجتماعي يبرز السؤال التالي :
– ما السبيل لتحصين المجتمعات من التأثيرات السلبية لمواقع التواصل الاجتماعي على الفكر والثقافة والمجتمع بشكل عام؟
لتحصين الثقافة والفكر في المجتمع لابدّ من الاستفادة من الأساليب والأدوات الثقافية والفنية،وإبعاد الغفلة عن الإدارة الثقافية، والتأكيد على دور النخب الثقافية والاجتماعية، والاستفادة من الموارد الاجتماعية ، وتعزيز الثقة بالنفس الوطنية، والتخطيط الشامل والعام وإيجاد الأمل بالمستقبل، و تقوية البصيرة لدى أبناء المجتمع والتي تكمن في معرفتهم ووعيهم بالذي يحدث ، وامتلاك القدرة على التمييز بين العناصر الخائنة والمغرضة من أبناء الشعب، و إعطاء الأولوية لمواجهة الحرب الناعمة، ومواجهة الحرب النفسية التي يشنها العدو بأدوات ووسائل وأساليب مشابهة، ومعرفة العيوب والنواقص والآفاق وكذلك التنبؤ اللازم عن أمل المزيد من التقدم بأنها ضرورة للتعبئة مؤكداً هزيمة قوى الاستكبار والاستعمار والعدوان من خلال تعزيز روح المقاومة، وزرع الأمل في نفوس الناس بالانتصار ،وبيان عناصر القوة لدينا والضعف لدى العدو، وتفعيل نماذج تربوية متكاملة تبدأ من الأسرة والمدرسة ومراكز العبادة ووسائل الإعلام لتحصين المجتمعات بمنظوماتها القيمية وتربية الفرد بما يتيح له التعامل مع مصادر المعلومات والقدرة على اتخاذ القرار وبما يشكّل مناعات ذاتية قادرة على التعامل مع خرافة القادرين على التلاعب بالعقول وإعادة التأكيد على قيمنا الخاصة وخاصة التي تشعر الفرد بانتمائه لمجتمعه وبيئته وثقافته الاجتماعية وخاصة قيم المحبة والتضامن والمشاركة ومناهضة الفردية المفرطة وامتلاك روح التضحية والدفاع عن الوطن.
التاريخ:الثلاثاء17-5-2022
رقم العدد :1095