الملحق الثقافي – علم عبد اللطيف:
ورد في التصدير الذي أعدّه الدكتور عبد الرحمن بدوي لرواية (دون كيخوته)..
(روائع الأدب العالمي أربع: (الالياذة) لـ هوميروس.. و(الكوميديا الإلهية) لـ دانتي.. و(دون كيخوته) لـ ثربانتس.. و(فاوست) لـ جيته. الصفة السائدة في الأولى هي البطولة، وفي الثانية القداسة، وفي الثالثة التهكّم، وفي الرابعة الإنسانية.
دون كيخوته تجسيد للمثال والقيم المجردة، إنه الجانب المثالي من الوجود الذي يصرعه الجانب الواقعي، ويظل الصراع بين الجانبين متصلاً، لا يفت في عضده انتصار الواقع على المثال باستمرار، ومن هنا كان هذا الديالكتيك الحي الذي يمثل طرفيه كلّ من الفارس دون كيخوته وحامل السلاح سنشو بنثا، ولهذا كانت قصة دون كيخوته هي قصة الوجود نفسه، بقطبيه المتنافرين المتصارعين المتنازعين، ومن نزاعهما يتألف ديالكتيك الوجود، وكانت شخصية دون كيخوته من النماذج الإنسانية العليا، الى جانب بروميثيوس وفاوست وهاملت ودون جوان، إن دون كيخوته يمثل روح الانسان، أما رفيقه سنشوبنثا فيمثل بدن الانسان، هذا الرفيق الأصيل للروح.).
هو رأي مفكر وناقد ومترجم، ولم يكن عبد الرحمن بدوي أول من قال ذلك، فقد سبقه كثيرون الى الغوص في شخصية دون كيخوته وتحليلها.
أورد المترجم في تصديره للرواية التي ترجمها عن الفرنسية، أن مايميز رواية دون كيخوتة ، هو التهكم، لكن لماذا التهكم، وكيف.
في عصر ميجيل دي ثربانتس سابدرا، الذي ولد في (1547) وسافر الى إيطاليا، فتعلم الإيطالية، وقرأ كبار الكتاب الايطاليين في الأصول،ويقال :إنه تأثر بملحمة (أورلندو الغاضب) في روايته (دون كيخوته)، وعاد الى وطنه، فلم يلق غير الحسد والكراهية والعذاب والإنكار، ورغم أن روايته دون كيخوته طبعت عشر طبعات منذ ظهورها في مدريد سنة 1605، فإنها لم تدر عليه ما يكفل له الكفاف، وعاش مترددا بين السجن وحياة هي أقرب الى السجن، وتوفي في 1616.
نشر ثربانتس الجزء الأول من هذه الرائعة تحت عنوان :(النبيل البارع دون كيخوته ولامنتشا)، ويرى (منتدث بيدال)،أحد أدباء ذلك العصر، أن الفصول الأولى من دون كيخوته قد حملت بعض التأثيرات من مسرحية (إنتريميس)، التي يرى البطل فيها نفسه في أبطال الأغاني الملحمية الشعبية، وذهب البعض الى أن ثربانتس قد التقى فعلاً بمجنون في الواقع، واستوحى منه شخصية دون كيخوته، وهو جنون شائع ووارد الحدوث، سببته قراءة كتب الفروسية، فقد كتب (لويس ثاباتا) 1526..في كتابه (الأمثال)..( لا شيء أعجب بين حوادث عصرنا العجيبة من فارس هادئ جداً، عاقل جداً، ومحترم جداً، ولكنه خرج مجنوناً من القصر بغير سبب، وبدأ بارتكاب حماقات، فانتزع ملابسه وصار عارياً، وقتل حماراً بطعنات سكين، وطارد العمال بالعصا.)
الدافع كما يرى كلّ النقاد في العالم إلى كتابة دون كيخوته، هو السخرية من قصص الفروسية، التي كانت منتشرة بدرجة كبيرة في اسبانيا في ذلك الزمن، القرن السادس عشر، وخلفت ضحايا كثيرة بين قرائها، إذ يصرح ثربانتس في استهلاله..بأن القصد من الكتابة ليس إلا كبح وتحطيم ما لكتب الفروسية من تأثير وسلطان عند عامة الناس، لتتطلع ببصرك إلى تحطيم هذه الآلة الفاسدة من كتب الفروسية مما يعافه الذوق ويثني عليه الكثير، .. إن هدفي أن أجعل الناس يكرهون القصص المفتعلة الخيالية التي ترويها كتب الفروسية، إنها كاذبة وزائفة، خرافات لا يراد منها غير الامتاع، وهي تخلو من الاحتمال ويعوزها الصدق الأدبي.
اذن ثربانتس يهاجم الأدب القائم على الخيال الجامح، الذي يِرد على مواقف غير معقولة، وافتقارها إلى الحقيقة التاريخية، وهو يشترط في الأدب أن يكن صادقاً ومعقولاً، بعيداً عن الخوارق والتهويل، واقعياً قدر الإمكان، يحسب حساباً للطبيعة الإنسانية بعيوبها ونقائصها وحدود قدراتها، وان كان من المحتمل قد تأثر بها ككل أبناء عصره، لكنه لم يجد أنسب من أسلوب التهكم والسخرية ينتقم به لنفسه أولا بعدما لاقى شظف العيش والشقاء في وطنه، ولشدّ أبصار الناس إلى المستوى المتواضع لقصص الفروسية والخوارق، التي أثّرت في عقول أبناء وطنه، فتعلقوا بالخيال بدلاً من الواقع، وواجههم بسخرية لاذعة في رائعته الكبرى (دون كيخوته)، هاجم الإدارة وعقليتها الضيقة، والأديرة وأنظمتها الزائفة، وهاجم التفتيش بجبروته وطغيانه، وسخر من أدعياء الشجاعة والحكمة والتقوى، وتغامز على رجال العدالة ورجال الدين، وعموماً فإنه لم يترك طبقة ولا طائفة أو جماعة إلا وسلقها بلسان حاد من التهكم، وهكذا جاء (دون كيخوته) سخريةً من البطولة الزائفة، والعدالة المموهة، والنفاق الذي كان سائداً في زمنه، فكانت شخصية دون كيخوته، وهو نبيل من إقليم (المنتشا)، من طبقة متوسطة بين النبالة الحقيقية وبين عامة الناس، خرج من بيته في قرية لم يذكر المؤلف اسمها، بحثاً عن المغامرات، ثم عاد الى قريته بعدما وقعت له عدة حوادث تثير الضحك والاشفاق معاً، والموضوع الأساس في القصة هو التعارض بين أحوال الوسط الاجتماعي النبيل منشأً، وبين فكرة غريبة جداً، هي أن يصبح فارساً جوالاً، وأن يبعث بها العصر الوسيط، ومهمته في ذلك حماية المستضعفين، ومعاقبة المجرمين، وتصحيح الأخطاء، والقضاء على الجرائم، لكن غلطته الكبرى، أنه ولد متأخراً عن العصر الذي كان يجب أن يولد فيه بثلاثة قرون.
دون كيخوتة، الرواية الرائدة في عالم الكتابة الروائية، قدمت لنا شخصية متصلة بالواقع، ليست من الخيال المحض، واتصالها بالواقع هو سر خلودها، كما كل الشخصيات الروائية في الآدب العالمية، والتي لا ينساها من قرأها، فقط لأنها واقعية تكاد تحيا بين الناس وتحدثهم، من منا ينسى جان فالجان، في بؤساء هيجو، أو (أنا كارينينا) في رواية تولستوي، ..أو هاملت شكسبير، هذا الاتصال مع الواقع، يرقى الى مستوى الحقيقة، وتصبح هذه الشخصيات كما لو انها عاشت بالفعل بين الناس، اتصال عرف المؤلف العبقري ثربانتس كيف يبنيه في قصته، ساخراً ممن لا يمكنهم أن يصدقوا أن زمناً قد انتهى لا إلى رجعة، وأن تعلقهم بزمن سابق هو الجنون بعينه، وأن هؤلاء لا يستحقون إلا السخرية، ويا لها من سخرية فعلت وأثّرت.
العدد 1098 – التاريخ: 7 – 6 – 2022

السابق
التالي