الملحق الثقافي – عبد الحميد غانم:
شخصية (شهريار) الشخصية المحورية الى جانب شخصية شهرزاد في حكايا ألف ليلة وليلة في واحدة من الأعمال الأدبية الخالدة، التي انتشرت في العالم ولا تزال، واستحوذت اهتمام الكتاب والشعراء والأدباء الذين استلهموا منها العديد من الأفكار في أعمالهم الأدبية والفنية، وانتجتوا العشرات من الافلام السينمائية والمسرحيات والأعمال الموسيقية. وكلنا يذكر أغنية كوكب الشرق أم كلثوم (ألف ليله وليله) الذي يدندنها الواحد منا بشكل لا إرادي عندما يقرأ تلك العبارة مقلداً صوت أم كلثوم.
شهريار الملك الذي وصفته الحكاية بأنه ملك عادل، ولكن كأي إنسان له نقاط ضعف وهفوات لا تظهر الا بعد حدوث أمر مؤلم في حياته وهذا الذي حدث مع الملك شهريار فكان له أخ أصغر منه (شهر زمان)، وكانا هما الاثنان تخونهما زوجاتهما مع العبيد، وقد اكتشف شهر زمان أمرهما.
شهريار أصيب بعد اكتشاف خيانة زوجته بحالة كره فيها النساء، ولم له ثقة بأية واحدة منهن. وأخذ يتزوج النساء الواحدة تلو الأخرى ويقتلهن في صبيحة زواجه. فخافت النساء بطشه إلا (شهرزاد) ابنة وزيره التي تقدمت للزواج منه. ولذكائها بدأت تروي له القصة تلو الأخرى كل ليلة حتى فجر اليوم التالي دون أن يمسها، وتشوقه لمعرفة نهاية القصة التي لم تكن تنهيها إلا في الليلة التالية حتى وصل عدد القصص التي روتها ألف قصة وقصة روتها في ألف ليلة وليلة. شفي الملك بعدها وأحبها، وأصبحت شهرزاد ملكته.
لقد أراد الكاتب من وراء حكايته أن يظهر حقائق المجتمع في الزمن الذي عاشه ولكن بأسلوب أدبي فريد حتى يتسنى لهذا العمل الانتشار بين الناس من باب التنوير واطلاع ما يجري في داخل القصور وينقل الواقع الفعلي للنظرة الدونية للآخرين.. وباعتبار أن الثقافة تكشف واقع المجتمعات والمرآة العاكسة لمدى تقدمها الحضاري وأمراضها التي تشكو منها تأتي حكايا ألف ليلة وليلة وشخصية شهريار لتلقي الضوء على حياة هذا الملك الذي تصفه شهرزاد في الحكاية بالملك السعيد هل كان سعيداً بحق عند كان يتزوج في كل يوم فتاة ويقتلها بعد ذلك ليشفي ساديته تكفيراً أو انتقاماً من زوجته التي خانته مع عبد من عبيده.
شخصية شهريار هي شخصية أسطورية أو خرافية لايمكن أن تتحقق في الواقع مهما كان الواقع، لكن الكاتب إن أخذ شيئاً من واقعه أراد به المبالغة انتقاماً من ملك أو سلطان أو شخص لا يستطيع البوح باسمه أو تحديد مكانه، وأطلق العنان لخياله حتى يفجر فيه مشاعره الغاضبة والحاقدة على تلك الشخصية.
فالكاتب لم يذكر اسم الملك، ولا موطنه، فقد أعطى صفة الفنتازيا إلى زمانية الأحداث(حكي والله اعلم أنه فيما مضى من قديم الزمان وسالف العصر والأوان) وكذلك مكانية الأحداث (ملك من ملوك ساسان بجزائر الهند والصين) اذن لا يوجد مكان محدد والكل يعلم ماذا تعني جزائر الهند والصين وسعة هذه المناطق وعدد الدول أو الدويلات الموجودة التي تحتويها هذه الأرض الشاسعة في تلك الفترة.
وعمد المؤلف إلى عدم وضع اسمه خوفاً من السلطة القائمة واتجه إلى تسمية الأبطال بأسماء غير عربية ومن أسماء مركبة من كلمات لها معان متقاربة في اللغات الفارسية والهندية والتركية ولغات جزر الهند والصين وعلى سبيل المثال (شهر يار) و(شاه زمان) و(شهر زاد) و(دنيا زاد).
كما عمد إلى السير بالطريقة نفسها التي كانت متبعة من تبجيل الملك أو السلطان ووصفه بصفات العدالة والفروسية والاستقامة حتى لو كان أقسى خلق الله (وكانا فارسين بطلين، وكان الكبير أفرس من الصغير، وقد ملك البلاد بالعدل بين العباد اسمه…) وفي مكان آخر (… حاكم عادل في رعيته مدة عشرين سنة …)
من شخصية شهريار الملك وتصرفاته أراد تعرية المجتمع الذكوري السائد والذي غالباً ما يجلس على هرم السلطة في البيت أو في الشارع أو القصر أو في المجتمع عامة، وكذلك النظرة الدونية السائدة في تلك الفترة للمرأة فهي مجرد حاجة أو جارية أو راقصة أو هي مصدر الآثام والجرائم والموبقات. المرأة هي أم المشاكل وسوف تبقى تحت تسميات العورة والخائنة ما دامت جاهلة ولن تستطيع أن تتحرر من هذه العبودية إلا بالتعلم. ويريد أن يقول إذا لم تتثقف المرأة فإنها تبقى تحت سطوة الرجل ومعرضة إلى تشويه صورتها كإنسانة والعلم هو الطريق الوحيد لتحررها من هذه العبودية والنظرة الدونية.
وألقى المؤلف الضوء على صفات شهريار وما يجري في الظلام وخصوصاً في الكواليس أعمال الخيانة والدسيسة والإيقاع بالآخرين والمؤامرات في ذلك المجتمع. وأن الملك فوق القانون وليس لأحد أن يحاسبه وهو الحاكم المطلق. قيام الملك (سل سيفه وضرب الاثنين فقتلهما في الفراش) دون محاكمة ودون أي سؤال او جواب ومن غير أن يسأل الملك عن الحادثة وشهود الإثبات .. لأن الملك فوق القانون.
لم تكتف الزوجة بالخيانة فقط وإنما الخيانة مع (عبد أسود من العبيد)محاولة مبطنة لوضع المرأة في أعلى درجات الخبث والخيانة والخسة وفي الوقت نفسه وضع الإنسان الأسود خارج درجات الإنسانية.
بالمحصلة الخيال كان وسيلة المؤلف للهروب من واقعه المؤلم وتصور عالم أفضل، والخيال كان الفرس التي امتطتها شهرزاد وقادتها وجعلت شهريار مسافراً على متنها فوق سرجها. الخيال ليس هروباً من القبح، ومن الرعب، ومن المظالم الاجتماعية، وإنما هو بالضبط تصميم لبناء بديل، هندسة فرضية لمجتمع أكثر انسجاماً مع رؤيتنا الإنسانية والأخلاقية.
لقد تمكنت هذه الـنثى من أن تهبط إلى أعماق الرجل وتشرع في إخماد نيران الحقد المتأججة، بذكاء من خلال جلسات علاج نفسي تلقائية، توصّلت الراوية إلى أن تحكي لشهريار قصته الخاصة عبر هذه الحكايات التي يلتحم فيها الواقع والخيال وتظهر فيها قيم العدالة والإنسانية.
حتى استطاعت (شهرزاد) أن تروض نزعة الشر والعدوانية عند رفيقها المعذب. عندها صحا شهريار وانجلت عنه سكرته، وقال: «والله إن هذه الحكاية لَحكايتي، وهذه القصة قصتي؛ لقد كنت في حال من الغضب والحنق حتى أعدتني إلى صوابي» ثم استعاد عقله وطهر قلبه وثاب إلى رشده».
العدد 1098 – التاريخ: 7 – 6 – 2022