الملحق الثقافي – دلال إبراهيم:
ثمة جمل مسرحية اشتهرت لقوة تعبيرها، لأنها تنطوي على حكمة، وهناك شخصيات وأبطال مسرحيون قد رسخوا في أذهان الجمهور ولم يفارقوا مخيلتهم، حتى إن البعض يعرف ويذكر العنوان دون أن يشاهد العمل، وذلك يشير إلى الشهرة الكبيرة التي تمتعت بها تلك المسرحيات، والمكانة التي احتلتها.
ومن تلك الأعمال الخالدة مسرحية «في انتظار غودو»، للمؤلف الايرلندي صاموئيل بيكت، والتي عرضت لأول مرة على خشبة مسرح بابيلون الفرنسي عام 1953وحتى الآن لا تزال تجد صدى وقبولاً كبيراً من قبل عشاق «أبو الفنون» في كل مكان. حتى عنوان المسرحية تتفكه فيه المجتمعات والأوساط العامة والشعبية في التعبير عن فقدان الأمل بعبارة «في انتظار غودو» أو ببعض الكلمات والحوارات الدائرة بين فلاديمير واستراغون بطلي العمل، تلك العبارة البائسة القاسية «لا شيء يحدث، لا أحد يأتي». وتنتمي المسرحية لما يعرف بتيار العبث، ومن أهم سماته أنه يعتمد أسلوب الصدمة في توجيه رسالته للجمهور، وهو بلا صراع، والأفكار فيه غير متسلسلة وليست منطقية، والشخصيات متشظية، والحوار ليس محكماً، لأنه يعبر عن المآسي التي عاشها الإنسان، لذلك فإن العبث يركز على مواضيع اليأس والانتظار بلا طائل.
تركنا الكاتب بيكيت نعيش فصلي المسرحية ونحن ننتظر بشغف ظهور هذه الشخصية، التي ستأتي لكي تنقذ فلاديمير واستراغون من بؤسهم وفقرهم وضياعهم وتشردهم، عرفنا أنه هو المخلص بالنسبة لهم. ولكن أملهم تبخر بعد انتظاره لمدة يومين، عاشوا في وهم أن يأتي، ولم يأت ولن يأتي. كلنا ننتظر غودو الخاص بنا. كل لديه غودو ينتظره يأتيه ويحمل معه ما يتمناه ويرتقبه. هو الهاجس الزمني الغامض النابع أولاً وأخيراً من لا معقولية هذا العالم. أي انتظار اللاشيء، انتظار المجهول، انتظار العدم، الانتظار فقط، الانتظار لأنك لا تجد بديلاً آخر عنه. حتى بات غودو رمزاً للغيب المنتظر. إنه استسلام كلّي لضرورة الحياة على أمل الخلاص. والجدير ذكره أن بيكت يركز في مسرحه على مواضيع اليأس والانتظار بلا طائل، والمسرحية تعمل على عكس الواقع الإنساني بشكل صادق ومجرد من الرتوش، تقدمه بشكل أمين، فتطل على مشاكل العصر وموقع الإنسان منها، جراء ما أحدثته الحرب العالمية الثانية؛ حيث التشرد والضياع والعزلة والعجز عن التواصل مع الآخرين، ما يكرس لحياة فردية قاحلة في مشاعرها الإنسانية. وهكذا لا سبيل للشخصيات في أعماله سوى الانتظار، طالما أنها عجزت عن اختيار سبيل آخر. وهي ذات الحياة التي نعيشها في مرحلة ما بعد العولمة؛ لذلك يجد مسرح العبث مشروعية حضوره في هذا العصر؛ حيث الوحشة وحياة الاستهلاك، وسيادة السخرية وروح التهكم، فموضوع المسرحية لا يزال راهناً.
كثير منا يعيش هذه المحنة كجزء من حياته قليلاً أو كثيراً وربما يعيشه طوال حياته . إنه زمن يمشي ولا يمشي يتحرك ولا يتحرك يفعل فعله فينا نهرم، نأكل، نشرب، نسقط، نتألم، نعجز. لكنه في الوقت ذاته «غائب» يتركنا نهباً للمجهول ينقلنا نحو الانعطاب حيث يأتي الانتظار من باب الاستسلام للزمن أو بالأحرى من باب جعل هذا الزمن الخاوي قابلاً لأن يعاش أو يسكن. فهذا الانتظار (في انتظار غودو) ذريعة لشيء آخر هو كيف نمرر الزمن عندما يحاصرنا اللامعنى، اللاتاريخ، وعندما نكون عاجزين حتى عن الانتحار حيث (يفشل بطلا المسرحية فلاديمير واسترجون في الانتحار من أعلى برج ايفل) قبول لا فحوى الحياة قبول عجزنا ووحدتنا العميقة وخلاصنا المفقود. لا أحد قادراً على إنقاذ أحد وحتى انقاذ ذاته. وليصبح انتظار غودو قناعاً للاانتظار لـ «موت الروح» أو «لحطامها» أو كما يقول بيكيت «في فعل الانتظار نجرب مرور الزمن في شكله الأنقى». بينما يفعل الزمن الأفاعيل ولكنه غير مرئي ولا يمكن التحكم فيه، شبح ساكن وفي الوقت نفسه دائم ووافر الحركة. الذاكرة حاضرة، أو النسيان للدقة، كأحد أفعال الزمن. الذاكرة التي يحاول الواحد التحصن وراءها ضد الزمن. ولكن أي ذكرى؟ كل ذكرى غامضة ومتداخلة مع غيرها. ما يجعل فعل الانتظار عموماً ضرباً من المعاناة الإنسانيّة الصعبة وشكلاً من أشكال العذاب الذي قد لا ينتهي، رغم ما يحمله هذا الانتظار، في بعض ردهاته، من أمل مهما كان ضئيلاً. ونعتقد أن مجيء غودو أو عدمه ليس هو لبّ المشكلة، وإنما رمزية الانتظار بحدّ ذاتها باعتبارها مشكلة إنسانية كبرى، فكيف وبأية وسيلة سنمرر هذا الزمن الساكن ريثما يأتي الفرج؟ ربّما هذه الحال أشبه بانتظار «بنيلوبي» لزوجها اوديسيوس في أوديسة هوميروس، لقد انتظرته 20 عاماً وكانت تزجي وقتها بغزل الصوف نهاراً ونقضه ليلاً..وبالتالي اعتبر البعض غودو كما شخصيات مسرحيات بيكيت شخصية ميتافيزيقية ويعتبر هذا البعض أنها شخصية دينية في عمقها تعبر عن تساؤلات «لا مجدية» إزاء المصير الإنساني والكوني وعزلة هذا الإنسان في هذه الصحراء اللامحدودة من اللاشيء. والبعض الآخر ربط بين فكرة انتظار غودو بالقلق الغيبي. من أين جئنا؟ من نحن؟
وبالتالي، لم يتوقف الإنسان منذ صرخة سقراط الشهيرة «اعرف نفسك بنفسك» ووصولاً إلى لوحة غوغان الكبرى «من أين جئنا؟ من نحن؟ وإلى أين نسير؟» وربما حتى إلى حيرة إيليا أبي ماضي قائلاً «جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت « القصيدة التي غناها محمد عبد الوهاب، من طرح سؤال الذات على نفسه.
وتعددت الآراء حول مصدر استلهام بيكت لفكرة المسرحية. إذ يشير بعض النقاد إلى أنه استلهمها من «أسطورة سيزيف» التي كتب عنها البير كامو مقال نشره عام 1942 والتي يوضح فيها أن سيزيف يجسد هراء وسخف ولا منطقية ولا عقلانية الحياة الإنسانية، ولكنه يختم بقوله أن المرء لا بد أن يتخيل أن سيزيف سعيد مسرور على الرغم من قيامه بنفس العمل الشاق كل يوم دون الوصول لأي نتيجة أو فهم المعنى من قيامه بهذا العمل الذي لا طائل منه ولا أمل فيه من الأساس.
إلا أن بيكت أقر في أحد الحوارات التي أجريت معه أنه استلهم مسرحيته من لوحة كاسبر دافيد فريدريش «رجل وامرأة يرقبان القمر» التي رُسمت في الفترة ما بين 1830 – 1835، ويقف فيها رجل وامرأة يرتديان زيين ألمانيين شعبيين تقليديين على ربوة عالية إلى جانب شجرة عجوز ومنزوعة الجذور ومائلة نحو صخرة، كلاهما ثابت وشاخص البصر نحو السماء والقمر. يظهر وجه الشبه بين اللوحة والمسرحية في الشخصيات التي تبدو وحيدة وتشعر بالعزلة في مكان مقفر.
ومن جانب آخر شكلت مسرحية «في انتظار غودو» أو بالأحرى شخصية غودو مصدراً إلهامياً للكثيرين. فقد استوحى عاصي ومنصور الرحباني مسرحية «الشخص» ا من رائعة بيكت، مع الحفاظ على ثيمة الانتظار كما فعل الشاعر المصري أمل دنقل في عمل مشابه قامت ببطولته المغنية الأوبرالية عفاف راضي.
كما واستعار عبد الوهاب البياتي الفكرة، أي مفهوم غودو المنتظر وهو الذي قد يأتي ولا يأتي في تسمية ديوانه «الذي يأتي ولا يأتي» بدلالة الحيرة وقلق الانتظار. السيرة الذاتية التي كتبها عن عمر الخيان.
واقتبس الشاعر نزار قباني من شخصية غودو وكتب قصيدته يقول فيها «تعال يا غودو .. وجفف دمعنا .. وأنقذ الإنسان من مخالب الإنسان…» في دلالة على استحالة تلبية الطلب!.
إذاً :هي قصة الانتظار ذاتها تتكرر عبر الأزمنة والأمكنة. في نهاية الأمر إن «غود « هو «الذي لا يأتي «هو المشكلة التي بقيت دون حلول، هو اللاسؤال واللاجواب. وليبقى الانتظار في مسرحية بيكت عبث حقيقي لا تشوبه شائبة.
العدد 1098 – التاريخ: 7 – 6 – 2022
