من العالم… أن نكتب عند تخوم الفراغ

الملحق الثقافي:

هو السؤال المطروح بكل زمان ومكان :ما جدوى الكتابة وماذا نكتب توماس رنيي طرح هذا السؤال ايضا ، وكتب مقالاً حول ذلك نشرته صحيفة الاتحاد الاماراتية وترجمه :أحمد حميدة
يقول : تبدو أعمال موريس بُلنشو الفيلسوف الفرنسي المشهورمسكونة بمسألة الشرّ، باللاّشيء وبالموت ولكن لو تأمّلناها عن قرب، لتبدّى لنا هذا الكاتب أبعد ما يكون عن الفكر العدمي، بل سنكتشف فيه أحد نقّاد العدميّة الأكثر ضراوة.
إن كان موريس بلنشو في مجمل أعماله قد تحدّث عن اللاّشيء وعن الموت، كمواضيع للتأمّل تثير القلق والتوتّر، وإن لم يتوقّف عن العودة إلى تلك المواضيع ليتفكّر مع عدد من الكتّاب الآخرين (كافكا.. ريلكه.. مالاّرميه، بسكال، تولستوي، جيمس، وآخرين..) في العلاقة اللاّفتة للأدب بمثل تلك المواضيع، فإنّ ذلك كان كافياً في مجال النّقد الحديث كيما يصنّف الرّجل دونما تردّد ضمن المفكّرين العدميين. ألم يصرّح بلنشو في مجلّة «الفضاء الأدبي» أن «الكاتب هو ذلك الذي يكتب حتّى تقدر له الموت، وأنّه يستمدّ قدرته على الكتابة من علاقة مسبقة معها»، أو أيضاً قوله: «يهتمّ الفنّ بالحقائق وفق لامبالاة مطلقة، أي بتلك المسافة اللاّمحدودة التي هي الموت». وقد نذكر أيضاً هذا المقطع من مؤلّفه.. «الكتاب الآتي»، الذي أشار فيه بلنشو إلى مقتطفات من تراسل بينه وأرتو، أرجع فيها بداية فعل الكتابة إلى جذريّة اللاّشيء، حين تساءل: «هل يملك من ليس لديه ما يقوله، غير محاولة البدء بالكلام والتعبير عن الذّات؟».
فرضيّة خادعة
بلنشو.. الكاتب العدمي، بلنشو.. آخر معلّم، بلنشو.. ختام إرث الفكر العدمي في الغرب، والذي تكون العدميّة قد بلغت معه منتهاها، بلنشو.. رمز القائد.. الذي تحدّث في آن عن ضرورة الكتابة وعن استحالتها: والفكرة فيها ما يغوي، بل فيها ما يجعلها فاتنة، وحتّى إن تبيّن أنّها خاطئة، وأنّها لا تصمد أمام القراءة الصارمة، فقد تمّت إثارتها في أحيان كثيرة في السّنوات الثّلاثين أو الأربعين الأخيرة، لتتمّ إثارتها من جديد. إنّها تتوافق مع الموْشُور الذي عبره، غالباً ما تعرّفنا على كاتب «توماس الغامض»: كتابة الصّمت والعزلة، والعزلة والتّلاشي، فبلنشو.. كاتب يترك مسافة نقديّة بينه والالتزام السّياسي، الذي يرى أنّ وحدة الأفراد والأفكار والمشاعر، لا يمكن أن تكون إلاّ «مستعصية على الذّكر»! (سارتر – المضادّ بالنّهاية).
وتلك الملامح التي تتساوق وحقيقة السّيرة الذّاتيّة لبلنشو، قد تكون كافية لتجعل من بلنشو أحد الممجّدين للفراغ والعدم. ونفكّر هنا خاصّة في «برتيليمي وجماعته» لفيلامنتراس، الذي بفضل انزياح دلاليّ (تسمح به ترجمة غير أمينة)، جعل من برتيليمي ليس مجرّد ناسخ فحسب، وإنّما كاتباً، وكان هذا النّاقد والرّوائيّ الإسبانيّ قد توّج شخصيّة ملفيل زعيماً لأسرة فريدة: أسرة أدباء الكتابة النّادرة، التي لا تكون مصحوبة بقلق عصابيّ أمام الورقة البيضاء أو بعجز إبداعي، وهو نسل نصف حقيقيّ ونصف خياليّ.. قد يحتلّ فيه بلنشو مكانة رفيعة.المهمّ هنا ألاّ نعتبر فرضيّة أن يكون بلنشو مفكّراً عدميّاً.. فرضيّة عبثيّة، وإن كانت في كلّ الأحوال فرضيّة خاطئة. وأيّاً كانت سطحيّتها، فهي لا تهمّ كتابة المقالات الأدبيّة فحسب، إذ يمكن أن تُحدّد ببراهين تستدعي التّفكير الفلسفي وتاريخ الأفكار. قد نلتمس كدليل على ذلك كتاب لمرلين زارادار، الفيلسوفة المتخصّصة في هايدغر، والذي خصّصته لموريس بلنشو، ألا وهو كتاب «الكائن والمتحايد، انطلاقاً من موريس بلنشو»، الذي يمكن أن نعتبره الرّسالة الأحدث، التي حاولت أن تمنح في مقاربتها لبلنشو ككاتب عدميّ، مصداقيّة فلسفيّة. ثمّ إنّ مَنْهجَة فرضيّةٍ مدعّمة بالاستشهادات والأسانيد، «تضع بلنشو، الذي يقترح رؤية محدّدة للأدب على محكّ السّؤال. وتتساءل زارادار في ما يشبه إعادة صياغة أمينة لتساؤل بلنشو ذاته: «وأيّ الخيارات قد تكون متاحة للفكر أمام اللّيل؟».. ثمّ تضع الفيلسوفة موضع السّؤال مدى وجاهة فكرة «التجربة القصوى»، التي نعرف أنّها تمثل مع فكرة التحايد، أحد المفاهيم المفاتيح في فكر بلنشو خلال الستّينات.
وكما أن كلّ شكل من أشكال التجربة، يقتضي بالضّرورة وجود موضوع قطب «يُفترض فيه أن يكون مرتكزاً لها (بداهة ظاهراتيّة.. لم يفكّر بلنشو أبداً في وضعها موضع السّؤال، وإن تحدّث عن المرور الخاصّ بالكتابة من «الأنا» المرتبطة بالسّيرة الذّاتيّة للكاتب، إلى «الهو» المتحرّرة منه)، فإنّ مرلين زاردار ترى، وبشكل منطقيّ، أنّه لا يمكن أن يكون هنالك أيضاً اختبار للحدود. وما ترفضه كاتبة المقالة، هو في النّهاية وجود تجربة قصوى لا تكون من قبيل التوهّم الأدبي أو شكلاً من أشكال السّفسطة اللّغويّة. تكون التّجربة القصوى حينئذ شبيهة باستعارات يستند إليها بلنشو، وعبرها تَلتَقط هذه التجربة أنفاسها لتتحدّث عن الموت، عن اللاّشيء، عن الظّاهر، عن اللّيل… وندرك جيّداً رهان مثل هذا التّدقيق، الذي يتمثّل في أن ننكر على التّجربة الفنيّة بالنّهاية القدرة على النّفاذ إلى ما يكون متعالياً على اللّغة وعلى المنطق.
متفكّر في العدميّة
في الحقيقة أنّه في كلّ عمل نقديّ لبلنشو، وخاصّة في «التّحاور اللاّنهائيّ» (هذا الكتاب الذي يبدو وكأنّه كتب على هامش الفلسفة، ليسائل حدودها ويزعج ثوابتها)، كان يتمثّل في التّأكيد على فكرة فرادة الأدب. فرادة تعني أنّه بالتّجربة الأدبيّة، وعلى نطاق أوسع عبر التّجربة الفنيّة، تكون الغاية هي العثور على المعنى المتخفّي في «الأشياء»، بعيداً عن «القيمة» التي عبرها يتمّ الإمساك بها من قبل عامّة النّاس. فبفضل الأدب تتحقّق، ولكن في عكس اتّجاه التمشّي الفلسفي، مهمّة الحفاظ على الفكر وتحريره من مفهوم «القيمة»، وهو ما يشير إليه بلنشو في الأسطر الأخيرة من «وماذا عن النّقد؟». و«أن نحافظ على الفكر ونحرّره من مفهوم القيمة»: تلك فكرة تناولها بعض المعلّقين -ونفكّر هنا تحديداً في تزيفتان تودوروف في «نقد النّقد»- مؤثرين معالجتها في أبعادها السياسيّة والأخلاقيّة، عوض التوقّف عند أبعادها الفينومولوجيّة والفنيّة، وذلك دون أن يدرك هؤلاء تحديداً أنّ الجانبين مترابطان ترابطاً لا يشوبه انفصام. ووفقاً لهذا المنظور الذي يعود بنا إلى الجدل في الحركة الإنسانيّة، والذي أحدث تصدّعاً في صفوف المثقّفين بعد الحرب العالمية الثانية، لا يكون بلنشو مفكّراً عدميّاً بقدر ما هو متفكّر في العدميّة -تلك العدميّة السريّة التي هي عدميّة كلّ فلسفة متغافلة عن مغزى التجربة القصوى، وانطلاقاً منها.. عن كلّ المتغافَل عنه من جوانب تاريخيّة ونفسيّة، والتي قد تأتي لتنفي وتحبط منهجها وتنفي فرضيّاتها.في الصّفحات الأولى من كتاب «الحوار اللاّنهائيّ»، متحدّثاً عن الفكر في علاقته «بالحاجة إلى التريّث واللاّتماسك»، أي إلى لحظة محدّدة تكون، وهي متموضعة بين الوجود واللاّوجود، عصيّة على الاختزال في كلتا الحالتين، افترض بلنشو علاقة من «نوع ثالث». والأمر يتعلّق بعلاقة تضع موضع السّؤال الكائن كبقاء واستمراريّة، كوحدة أو ككائن مجمّع، أي علاقة قد تُستَثنى من إشكاليّة أن نكون، وتطرح تساؤلاً لا علاقة له بالكينونة. ويضيف..«ونحن نتساءل عن هذا الأمر، فهل سيقودنا ذلك إلى هجر الجدليّة، بل وأيضاً الأنطولوجيا (علم الوجود). هنا.. يتعيّن علينا توضيح أنّ الجدليّة (وهي المنحدر «الهيغلي» لنقد بلنشو، تفترض بالضّرورة أنطولوجيّة تمهيديّة، أي المنحدر «الهيدغري» لذلك النّقد)، ليس بوسعها غير اقتباسها (الأنطولوجيا التّمهيديّة) بصورة دائمة ومتكرّرة. والأنطولوجيا التي تعنينا، تستلزم هي الأخرى استعادة كلّ ما ليس له علاقة بالوجود أو اللاّوجود. فلا يكون نقد الأنطولوجيا إلاّ متلازماً مع نقد الجدليّة، ولا يمكن بالتّالي أن نتفكّر في إحداهما بمعزل عن الأخرى، كما يبيّن ذلك مثال الجدليّة السّقراطيّة الذي علّق عليه موريس بونشو بإيجاز في الفصل عن فرويد، والذي يحمل عنوان «المقول التّحليلي».
محدوديّة الجدليّة
يتبيّن إذن أنّ شعار الفلسفة قد غدا محلّ جدل، ليس من حيث غائيّته، أي نزوعه الطّبيعيّ إلى تشكيل منظومة أو وحدة كليّة، وإنّما من حيث إيحاؤه الأنتروبولوجيّ الأصلي: إيحاء الفكر الجدلي الذي يُخضع الوجود الإنسانيّ لما يسمّيه بلنشو «الفضاء الأدبي»، مستشهداً في ذلك بهيغل.. «السّلبيّة في العمل» أو أيضاً «العمل الشاقّ للسّلبيّ». ويكون بلنشو حينئذ هو الذي بيّن بوضوح.. النّفي الذي قد تحجبه بحُكْم تأرجحها.. السّلبيّة. رفضٌ لما هو غامض، رفضٌ للموت، ورفض لما يظلّ في الموت، وبشكل مستعص، بالغ الغموض، مثلما لمّح بلنشو إلى ذلك حين أعاد كتابة أسطورة لازار، تلك الأسطورة التي أوردها في صفحات من «الحوار اللاّنهائيّ» تحت عنوان «كيف نكتشف المبهم؟». ستكون الفلسفة عدميّة متى سعت إلى تحييد ما هو محايد، بنفس الأسلوب الذي كانت خلاله تحاول، منذ بداية الفكر البارمنيدي، استنزاف مبدأ التّناقض الذي يُفترض فيه أن يكون مخالفاً لمبدأ المنطق الشّكلي. ومع ذلك.. وكما يؤكّد بلنشو على هذا بإصرار، فإنّ التّجربة الأكثر شيوعاً، التي هي تجربة الألم الجسدي والرّوحاني، تظلّ هنا لتشهد، في قلب الحياة اليوميّة، على محدوديّة الجدليّة. إنّه يتألّم ذلك الذي يعيش تجربة ما يسمّه برغسون «لا قياسيّة التّفكير» (التّفكير في الحقيقة وحقيقة التّفكير) واللّغة. إنّ تجربة الألم -أن نألم أو أن نفتقد شيئاً ما- فتلك تجربة فَقْد ناجمة عن حالة عجز يردّد فيها لسان الحال: «لم يعد بوسعي أن أفكّر، لم أعد قادراً على التّفكير»، ولن تكون معها أيّة إغاثة جدليّة.. مسعفة. كنّا نتساءل.. إلى أيّ مدى يقيم الأدب مع التجربة القصوى علاقة إبداعيّة مميّزة؟ إذ ترتسم انطلاقاً من «الفعل الأدبي»، وبـ«فعل الكتابة ذاتها»، «إمكانيّة قول يصرّح.. دون إثبات للكائن ولا إنكاره». فالتّجربة التي تحكم الكتابة قد تكون تجربة الفقد الصّارم ذاته، المستعاد كحالة فيض وامتلاء. إنّها التّجربة التي يسمّيها بلونشو كما أرتو بـ«حالة العجز»، أي أنّها ليست النّقيض الجدلي للإمكان أو القدرة، بقدر ما هي علاقة بالأشياء تتحدّد أكثر كصيغة للإمكان. إنّها استعارة الإلهام، كـ«نبع ينبغي أن يُنَشّف كيما يتحوّل إلى مورد». وبشكل أعمق، إنّه التّعريف الباسكالي للأدب، الذي وفقه «ينطوي الأدب على فراغ فيه، ومنه يتشكّل».
ونستشعر هنا اللّوم الضّمني، الذي غالباً ما يوجّه إلى بلنشو: أن يكون قد استبدل المثاليّة الفلسفيّة (التي تتأسّس على انسجام أو تلاؤم مفترض بين الكائن واللّغة) بمثاليّة أدبيّة قد تفترض على العكس من ذلك.. الفصل بينهما. إنّ هذه المثاليّة الأدبيّة، التي لم تعد لتتحدّث عن الكائن وإنّما عن غيابه، قد لا تخلو ممّا يشبه النّزعة الرّومنطيقيّة، التي تتمثّل في إثبات الفرادة اللاّاختزاليّة واللاّقياسيّة للخطاب الأدبي. ومع ذلك.. يعني مثل هذا اللّوم ألاّ نأخذ بعين الاعتبار أنّ الأدب كما يراه بلنشو، لا يخدم ذاته ككيان جديد في عالم الأفكار، وإنّما كحارس لتجربة قصوى، قد يحظى الأدب عبرها بمكانة راسخة.
العدد: 1100 التاريخ: 21 – 6 – 2022

آخر الأخبار
السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها مدير "التجارة الداخلية" بالقنيطرة: تعزيز التشاركية مع جميع الفعاليات ٢٧ بحثاً علمياً بانتظار الدعم في صندوق دعم البحث العلمي الجلالي يطلب من وزارة التجارة الداخلية تقديم رؤيتها حول تطوير عمل السورية للتجارة نيكاراغوا تدين العدوان الإسرائيلي على مدينة تدمر السورية جامعة دمشق في النسخة الأولى لتصنيف العلوم المتعدد صباغ يلتقي قاليباف في طهران انخفاض المستوى المعيشي لغالبية الأسر أدى إلى مزيد من الاستقالات التحكيم في فض النزاعات الجمركية وشروط خاصة للنظر في القضايا المعروضة جمعية مكاتب السياحة: القرارات المفاجئة تعوق عمل المؤسسات السياحية الأمم المتحدة تجدد رفضها فرض”إسرائيل” قوانينها وإدارتها على الجولان السوري المحتل انطلقت اليوم في ريف دمشق.. 5 لجان تدرس مراسيم و قوانين التجارة الداخلية وتقدم نتائجها خلال شهر مجلس الشعب يقر ثلاثة مشروعات قوانين تتعلق بالتربية والتعليم والقضاء المقاومة اللبنانية تستهدف تجمعات لقوات العدو في عدة مواقع ومستوطنات “اللغة العربيّة وأثرها في تعزيز الهويّة الوطنيّة الجامعة”.. ندوة في كلية التربية الرابعة بالقنيطرة