الملحق الثقافي:
كانوا قديماً يقولون: أدركته حرفة الأدب ويعنون بذلك أن الفقر قد نسج شباكه
وخيّم على من أدركته هذه المهنة ومن يراجع تاريخ الاداب العربية والعالمية فسوف يجد أن الفقر كان سمة من سمات المبدعين، وقلة اولئك الذين اثروا من ابداعهم الابداعي، شكوى وتذمر من سوء الاحوال وبحث عمن يملأ الجيوب دنانير، بعضهم سعى تكسبا ، وآخر سعى حاجة كابن زريق البغدادي ولكنه دفع حياته ثمنا لسعيه وان كنا قد ظفرنا بأروع قصائده ( لاتعذليه).
على كل حال لن نطيل في البحث وان كنا أردنا ن نبدأ من شكوى ابي حيان التوحيدي الذي يرجح انه بعد ان احرق كتبه قدمات بطريقة أقرب للانتحار منها الى الموت العادي.
يقول ابو حيان التوحيدي في رسالة وجهها الى ابي الوفاء البوزجاني داعيا اياه الى انتشاله من الفقر : ايها الشيخ .. خلصني ايها الرجل من التكفف ، وانقذني من لبس الفقر، واطلقني من قيد الضر، اشترني بالاحسان ، اعتبدني بالشكر، استعمل لساني بفنون المدح،اكفني مؤونة الغداء والعشاء.. الى متى التأدم بالخبز والزيتون؟. قد والله بح الحلق، وتغير الخلق الله الله في امري. اجبرني فاني مكسور ، اسقني فاني صد، اغثني فاني ملهوف، شهرني فاني غفل، حلني فانني عاطل، قد اذلني السفر من بلد الى بلد، وخذلني الوقوف على باب باب ، ونكرني العارف وتباعد عني القريب مني..
وفي عصر الانحدار عبر أحد الشعراء عن غضبه لما آل اليه الادباء فبالشعر كان يرجو الكلاب ، وحين صار جزارا صارت ترجوه الكلاب هذه الحال هي التي دفعت شعراءنا في مطلع القرن العشرين الى الهجرة الى ما وراء البحار وكان الادب المهجري الظاهرة الفريدة في تاريخ الاداب العالمية، وقد عبر شعراؤه عن بؤس احوالهم ، ولعل قصيدة الياس فرحات (شقاء الغربة) خير مثال على ذلك يقول في مطلعها :: طوى الدهر من عمري ثلاثين حجة-طويت بها الاصقاع اسعى أدأب اغرب خلق الرزق وهو مشرق-واقسم لو شرقت راح يغرب.. .
ظاهرة عالمية..
وعلى ما يبدو فان فقر المبدعين هو ظاهرة عالمية، لا سيما في مجال الاداب وربما وصل الامر الى الفن ( الرسامين) الذين ابدعوا لوحات بيعت فيما بعد بمئات الملايين وماتوا وهم يحلمون ولو بما يسد الرمق كما حصل مع فان كوخ..
بل ان الشاعر الفرنسي آرثر رامبو يدعو الى ان يكون الشعراء فقراء اذ يقول: هؤلاء الشعراء كما ترى، ليسوا من هذه الارض، دعهم يعيشوا حياتهم الغريبة،دعهم يقاسوا البرد والجوع،يركضوا ويحبوا ويغنوا انهم اثرياء هؤلاء الاطفال المجانين لان ملء نفوسهم شعراً يضحك ويذرف الدموع، ويثير الفرح والبكاء..
هل تغيرت الأحوال..؟.
للوقوف على حال بعض المبدعين وسؤالهم عن الاحوال المادية وهل كان لحرفة الادب دور في تحسينها اخترنا عينة عشوائية من المبدعين، ممن تجاوز بعضهم النصف قرن وهم يعملون في هذا المجال وبعضهم الاخر لا يزال يعيش ربيعه الابداعي لا المادي، وان كان المكتوب مقروءاً من عنوانه لكننا لا نريد ان نستبق الاراء التي جاءت مختصرة ومعبرة.
الشاعر عبد الكريم الناعم: الأدب مهنة الفقر..
الشاعر عبد الكريم الناعم، اشهر من ان يعرف وتجربته الابداعية سواء في مجال الشعر او النقد تدل على انه مبدع أصيل أثرى المشهد الثقافي بالادب الرفيع ، ومع ذلك فالشاعر يرى ان مهنة الادب هي مهنة الفقر، ولا تطعم خبزا، ولن تجعل الاديب ثرياً وقادراً على أن يعيش من مردود أعماله الأدبية، وان كان قد أشار الى الراتب التقاعدي الذي يوفره اتحاد الكتاب العرب لأعضائه..
عيسى فتوح :خرجنا بخفي حنين..
عيسى فتوح قدم للمكتبة الادبية أكثرمن 30 كتاباً في التراجم والنقد ود عمل في الصحافة الادبية منذ اكثر من نصف قرن، وفي باب الادب المترجم قدم عشرات الكتب الادبية المترجمة عن لغات عالمية وهي أعمال موجهة للاطفال ، اعرفه دائم السعي والعمل ومع ذلك حين توجهنا اليه بالسؤال عن الاحوال المادية بعد ان ادركته حرفة الادب ، تمنى علينا الا نفتح الجراح لأن مسيرة نصف قرن من العمل لم تقدم له شيئا يذكر بل انه في الكثير من الاحيان يدفع من راتبه التقاعدي لاكمال مشروعه الذي يكون قد بدأ به، وحسب رأيه ففي زحمة الحياة وتردي الاحوال لم يعد الكتاب (خير جليس) وكل شيء ارتفع ثمنه ما عدا الكلمة والعمل الذي يقوم به اي اديب هو عمل وجهد فردي، وخلاصة القول : لقد خرجنا بخفي حنين ولكن تبقى القيمة المعنوية، ولكن هل تغنينا وتقينا عن عاديات الزمن ..؟
كمال فوزي الشرابي: ثراء المبدع معنوي..
الشاعر والاديب كمال فوزي الشرابي، كان يتلقى ليرة ذهبية عن كل بيت شعري ينظمه وهو في مقتبل العمر ، طبعا يأتي هذا من المرحوم والده.. ولكن كيف اصبح الحال بعد ان دخل عالم النشر يقول الاستاذ كمال فوزي الشرابي في بعض المراحل استفدت من عملي الابداعي ولكن ليس في مجال الشعر وانما في مجال الصحافة وحتى عندما اصدرنا مجلة (القيثارة) مولناها وخسرنا الكثير لكننا قدمنا زادا ثقافيا ومعرفيا.. والآن ازدات الاحوال سوءا وبما ان الابداع مغامرة جمالية وروحية تحمل اهدافا انسانية وجمالية لذا ارى اننا خاسرون ماديا ونربح متعة العطاء ولكن هل يطعم هذا الربح ويسد حاجاتنا ..?!
سليمان البواب : كسدت بضاعتنا ..
سليمان البواب اديب وناشر ، ويعمل في هذا المجال منذ اكثر من نصف قرن ومع ذلك يرى ان المبدع في سورية والوطن العربي لم يستفد من ابداعه وربما عاد عليه بالكثير من المتاعب المادية،وبالنسبة له ويقول:
انه لولا دار النشر التي اديرها لما استطعت ان انجز الكثير من اعمالي التي قدمتها للقارئ ومع ذلك اقول :اصبح الادب بضاعة لا قيمة لها ، ويخطئ من يظن انه سوف يجد مردودا ماديا من كتبه واعماله الابداعية وهذا على عكس ما نراه في الغرب.
مرهف زينو: بعت كتبي
الشاعر مرهف زينو، قدم اكثرمن مجموعة شعرية ويعمل في الصحافة منذ اكثر من 20 عاما يقول زينو: اعمل في مجال الصحافة من اجل ان احصل على لقمة العيش وكثيرا ما اضطررت الى بيع قسم من مكتبتي لاسدد اجرة المنزل الذي اسكنه ، الشعر لم يعد ديوان العرب، بل هو ديوان الافلاس والحال لن يتغير واذا كان كبار الشعراء والادباء لم يستطيعوا ان يحققوا شيئا ذا قيمة مادية وما اكثر الذين تركوا عالم الادب وهجروه الى حيث تتوفر وسائل الحياة المريحة.
على النقيض..
النقيض من حال الفقرهذه ثمة شعراء وادباء اثروا وحققوا عيشا رغيدا من ابداعهم وعلى رأس القائمة الشاعر نزار قباني الذي وصلت طبعات مجموعاته الى اكثرمن ثلاثين طبعة للمجموعة الواحدة،ووزعت ملايين النسخ ويليه محمود درويش ولا سيما بعد منتصف ثمانينات القرن الماضي وحتى الآن وفي مجال الرواية يشار الى نجيب محفوظ ولا سيما بعد ان نال جائزة نوبل وبعد محفوظ تأتي احلام مستغانمي اذ حققت ثراء من وراء رواياتها وعلى رأسها ( ذاكرة الجسد) وان كان هؤلاء المبدعون يشكون من تزوير اعمالهم وطبعا بعيدا عن الاعين ..
ماذا أفدت..؟
لم نتسع بدائرة السؤال لاننا نعرف الاجابات والحال من بعضه كما يقولون ولكن لسان حال المبدعين عبرعنه شاعر (الكرنك).
قال: ماذا افدت بأشعاري وروعتها
سوى علالة تخليد لآثاري
وما الخلود بمأثور لعارية
غير الخسيسين من ترب واحجار
يا ضيعة الفن ان لم تمتلئ يده
بدرهم يكفل الدنيا ودينار
العدد: 1100 التاريخ: 21 – 6 – 2022