الثورة–اللاذقية-لمى يوسف:
وفيق سليطين “مفكراً وناقداً وشاعراً” في ندوة أقامتها اللجنة الثقافية لقسم اللغة العربية/ كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة تشرين، بمناسبة مرور عام على رحيله.
شارك في الندوة “د. صلاح صالح، د. فوزية زوباري، د. زكوان العبدو، د. ريان جلول” بإدارة ومشاركة أ. د. لطفية برهم.
• مسار النقطة
تحت عنوان “في الكلام على الكلام” قال د. صلاح صالح: أعترف بأن كلامي على وفيق سليطين هوى صعب وجارف منقّى من عوامل الخطورة المحسوبة في عمليات الانجراف. هو انجراف تسوقنا إليه وفيه عناصر الغواية ومسببات المتعة التي تجعل المجاهيل المستهدفة في مآل الانجراف موضعاً يثير انتشاءات الاكتشاف، ولكن تنتابه أمواج الشكوك. وأخطر ما في الأمر أنه يطرح أسئلة الجدوى المطموح إليها في كل عمليّة اكتشاف؛ فما الجدوى من تعقّل المجهول بالمجهول، ومن معالجة المشكوك فيه بالمزيد من الشكوك؟.
وأضاف: يتأطر السؤال الذي يربطنا بالتجربة النقدية التي تجاوزت في ممارسات وفيق سليطين حدود المغامرة في التالي: هل كان الفرار من تلمس الجدوى وتعيينات الحدود هو ما تجلّى في بعثرة اليقين وتذريره – لا تذريته- ليؤول في الممارسة النقدية التي وسمها وفيق بفرط القوّة، إلى نوع خلّاق من الغبار الذي يخلخل الرؤية، ويضبّبها حيناً، ويعصف بثوابت الوعي حيناً، ويثير الحساسية الأدبية والذائقة الجمالية إلى درجة التهييج في معظم الأحيان، كغبار الطلع الذي يؤذي الأنوف والرئات الهشة، لكنه ضروري للتلقيح والتخصيب.
ويتابع الدكتور صلاح القول: المسألة المثارة آنفاً تشكّل استئنافاً للسياق الذي بدأه – بحسب معرفتي- في أطروحة الماجستير التي أهداها إلى (النقطة) وكان من شوائب ذلك السياق أن النقطة في حينها لم يُفهم منها دلالتها العميقة التي تماهي العدم، وإذا حاولنا تتبّع مسار النقطة في الممارسة النقدية لوفيق سليطين بوصف النقطة تجريداً وذاتاً عيانية نلحظ ما يشبه الهويّة النقدية الماثلة في معظم النصوص النقدية، والماثلة أيضاً في المتأتّي كالزبدة الناتجة عن عملية مخض اللبن. والمخض في تجربة وفيق أقرب للخضّ المركّب، فالنص النقدي لا يكتفي بالخضّ العنيف للنصوص التي يتناولها ويعمل فيها اجتياحاً، وتشريحاً، واستنزاحاً، بل هو نصّ يخضّ القارئ، ويسعى إلى أن يترك لديه علامة تشبه علامة الختان في النصوص التي اشتغلت عليها تفكيكية ديريدا. والعلامة المتروكة علامة مركّبة أيضاً، علامة النص المشتَغَل عليه، وعلامة قارئ النصّين الفني والنقدي.
ويلفت الدكتور صلاح إلى أن وفيقاً معروف بامتلاك عدة نظرية ثقيلة. نعدد منها سعة الاطّلاع، والثقافة الواسعة الضاربة في ميادين شتّى، والمخزون المعرفي الذي يربط بمرونة منتجات الماضي التراثي إلى منتجات الحاضر إضافة إلى حرصه اللافت على استعمال آلة الفيلسوف في التعاطي مع النص.
• وعي حداثي وصوفي
أما د. فوزية زوباري استندت إلى ثنائية الموت والحياة قائلة: للشاعر مهمة جوهرية عليه أن يتمسك بها وهي الانصراف إلى التعبير عن حقيقة الإنسان الذي يمثله، وإعطاء صورة صادقة عن التجربة التي عاشها، مؤدياً شهادة دقيقة وأمينة عن الأسرار التي نقشتها الطبيعة في أعماقه. من هنا وجدنا أنَّ الدخول إلى العالم الشعري لوفيق سليطين، من خلال دواوينه الستة عشر المطبوعة حتى الآن، سيمكننا من تسليط الضوء على زاوية من زواياه، وهي التي تشكل رؤيته لثنائية الموت والحياة، وهو الشاعر الذي استطاع أن يزاوج، بيسر ولطف، بين الوعي الحداثي، والوعي الصوفي وأن ينهج نهج الصوفية في لغتها المجازية، وفي خيالها المخترق للخيال الوجودي، وفي روحانيتها، وفي كثير من رؤاها الإشراقية. وللقصيدة “السليطينية”، إن شئنا التخصيص، اهتماماتها بالقضايا الأنطولوجية الكبرى، وهو الشاعر والمفكر والمتأمل، شأنه شأن المتصوف الذي يجعل من الكون ومخلوقاته مدار اهتمامه وهمومه، يقول في إحدى قصائده:
هكذا يتأمل في الفراغ
آية.. آية
في الرصيف الذي تتعثر فيه العيون
وتمضي بلا هدف.
وأضافت الدكتورة زوباري: اخترنا ثنائية “الموت والحياة” في شعر وفيق سليطين، ليس لأنها من القضايا الوجودية الكبرى التي شغلت بال الشاعر والصوفي، على حدٍّ سواء، بل لأنها قضية عبّر عنها شعراً، فكانت فناً في مواجهة الموت. وإذا كانت العودة إلى الحياة الحقيقية الخالدة لا تتحقق إلا بالموت، فلأنه السبيل الوحيد إلى بلوغ المطلق. وأجمل ما في التجربة الصوفية للموت أنها لا تقدمه من حيث هو وسيلة لهدم الوجود وإزالته، بل تجعل منه وسيلة لتصحيح وضع الوجود، وتقويم اختلاله، وفي هذا الأمر قيمة أخرى تضاف إلى المواجهة؛ مواجهة الموت. وهذا التلازم بين الموت والحياة مرتبط بمفارقة هي:” الأعلى والأسفل”، أو ثنائية العالمين المتقابلين: عالم العلّو، حيث النقاء والشفافية؛ عالم الأصل والجوهر. والعالم الأسفل؛ عالم الواقع المعجون بكثافة المادة، والمجبول برغباتها، والعلاقة بين العالمين هي علاقة شدٍّ وجذب.
وللعالمين مرجعيتهما الدينية في الكتب السماوية، (الآيتان 35و36من سورة البقرة) والأساطير القديمة. وفي قصائد سليطين حضور واضح لهاتين المرجعيتين. فحضور ” آدم، وحواء، والتفاحة، وطينة الخلق، والطينة الآدمية ” التي وردت في القصائد له مرجعيته القرآنية والتوراتية، يقول:
شاعر هذا الخراب
الذي يسكن الموت في ضلع حواء منه
شبيهي الذي سوف أعرض عنه
وأحمل وزاره في عروق القصيدة
هل نحن شخصان ملتبسان
وضدان متحدان
باسم يحيط بنا في هوية؟!
• الذات والآخر
ودخلت د. لطفية إبراهيم برهم إلى تفاصيل كتاب “في نقد الانغلاق الخصوصي: نحو تأويل تقابلي”. قائلة: يتألف الكتاب للباحث “وفيق سليطين” من ثماني مقالات متنوّعة ومتعدّدة، يرين عليها ناظم فكريّ، يوحّد بينها ويشدّ بعضها على بعض، ويتجلّى في التأويل التقابلي لثنائية (الأنا/الآخر) التي يشخّص الباحث محرّكاتها الفكرية والإيديولوجية، لإعادة ربطها بالأصل أو الجوهر المحدّد للتاريخ العربي في تجلياته وقواسمه المشتركة بين طرفي الثنائية، وهي مقالات تسعى إلى الانفتاح على ثقافة الآخر. تُعنى مقالات الكتاب بتسليط الضوء على جوانب محدّدة من فكر الخصوصية التي تجسّد علاقة التضاد بين الذات والآخر، لمساءلة يقينياته المتراصّة وجوانبه التخييلية وفحص عناصره، وجهازه المفهومي، من خلال تناول بعض الجهود المبذولة فيه لمجموعة من المفكرين التنويريين، من مثل: فرنسيس المراش، جبرائيل ونصرالله الدلال، إدوارد سعيد، حسن حنفي، أدونيس، عبد العزيز حمودة…، ومعالجة بعض الجوانب والسياقات الدالة في كتاباتهم بالنقد الرامي إلى الكشف عن الطبيعة المأزومة لهذا الفكر، انطلاقاً من علاقة التضاد التي تحكم علاقة (الأنا) بـ (الآخر)، وتجعلها تدور بخلافها دوراناً تنتفي معه عمومية القانون النظري، على النحو المفضي إلى القطيعة، وحذف مشتركات التفاعل، ورفع جسور التواصل، وإغلاق الهويات بقطع بعضها عن بعض، ومواجهة بعضها ببعض، وتعريف كل منها بذاته تعريفاً نهائياً لا مكان فيه إلا للنبذ والإقصاء، لتجاوز ذلك كلّه، من أجل إثبات مشتركات التفاعل، ومدّ جسور التواصل، وفتح الهويات بعضها على بعض.
سيعالج البحث ذلك كلّه بالوقوف عند العنوانات الآتية:
ـ في خطاب الخصوصية:
أولاً: رؤية التنويريين العرب في الخطاب النهضوي.
الذات الحضارية والغرب/ العلاقة بالآخر التي يمكننا أن نصنّفها في مرحلتين:
” صناعة المثال” و “اليقظة الثقافية”.
ثانياً: رؤية المستشرقين “ثنائية الغرب/ العرب.” و” نقد الثنائية وتفكيكها”
ثالثاً: الهوية بين الثبات والتحوّل. ـ في نظرية الخصوصية.
وتتابع الدكتورة برهم: وبعد عرض ما قدّمه الدكتور وفيق سليطين، ومعالجته، وجدنا أن الباحث عني في كتاب (في نقد الانغلاق الخصوصي) بتحولات علاقة الأنا بالآخر، والعوامل التي أدّت إلى تشويه صورة “الأنا” في عيون العالم، كما عني بالثقافة الإنسانية ما بين الحوار والتفاعل من جانب، والصدام والصراع من جانب آخر؛ وبذلك يكون في نقده لفكر الخصوصية قد حاول دفع هذه الخصوصية إلى حيّز الإسهام الحضاري والإنساني؛ فالخصوصيات، بما تتضمنه من تمايزات قومية وثقافية، يجب أن تدخل في نطاق أشمل وأكثر عمومية. ويمكن لما يميّز ثقافة من أخرى، أن يصير مجالاً للتفاعل والتغير والنموّ والإضافة، بدلاً من الانغلاق والثبات ومعاداة الآخر أو تقييد الذات في صورة ثابتة تبدو خارج الزمن؛ وبذلك يؤكّد الباحث عدم الانسياق للآخر، بما يشبه المركز والأطراف، أو الصوت والصدى، ويقرّ بحتمية التواصل والتلاقح بين الثقافات والأفكار، ويؤمن بمراكمة الخبرات الإنسانية، في سبيل إنجاز طموح إنساني يتوق أبداً، إلى التحقق.
وتخلص الدكتورة برهم للقول: إن ما قدّمه الكاتب في كتابه جهد نقدي، ثقافي معمّق، أنتج إضافة جدّية في مقاربة فكر النهضة برؤية منفتحة وموضوعية في الوقت نفسه مقاربة حفرت في المخزون الثقافي الغربي حفراً يشير إلى تمكّنه من مساءلة خطاب النهضة بنظرة علمية وثقافة واسعة، جعلت من الكتاب إضافة نوعية إلى المكتبة العربية؛ إضافة تمثّل لغة الفكر النقدي المنفتح والراغب في التجديد، لخلق واقع ثقافي عربي قادر على التعايش مع محيطه، والتواصل مع العطاء الفكري الإنساني، لتعميم الفكر التنويري، واستبدال الأصولية بالوعي النقدي المفتوح في فترة تشهد تنامي خطاب التشدّد، وتنافر الهويات المنغلقة على ذاتها.
• انغلاق وانفتاح
إذا كان وفيق سليطين قد جمع بين التجربتين النقدية والشعرية، فإنّ النقد عنده إبداعٌ لا يقل قيمة عن إبداعه الشعري، ولا سيّما عندما يقرأ الشعر الصوفي القديم بأدواتٍ نقديةٍ ومنهجيةٍ حديثة. هذا ما بينته د. ريان جلول من تلامذة د. وفيق سليطين.
ومضت الدكتورة ريان بداية إلى دائرة النقد قائلة: سعى د. وفيق في كتاب (الشعر الصوفي بين مفهومي الانفصال والتوحد) إلى تحديد المفهومين مستفيداً من حقولٍ معرفيةٍ عدةٍ؛ منها علم النفس والفلسفة لتحقيق الوحدة والاندماج في معالجته النقدية للتجربة الصوفية ونصوصها المبنيّة على مفهوم التوحّد. ومن خلال هذا المفهوم ينزع الصوفيُّ إلى محو الحدود الفاصلة بين الأديان بهدف تنقية النفس من نتائج الانقسام والوصول بها إلى حالٍ من الصفاء. وهذا يندرج في التصوف الفلسفيّ تحت ما يُسمى وحدة الأديان، وهنا يتحرّر التصوف من دائرة الانغلاق إلى دائرة الانفتاح.
وتعمقت د. جلول في كتاب سليطين “الزمن الأبدي- الشعر الصوفي” مبينة أن لحظة الابهار في الشعر الصوفي تنبعث من تواشج “الزمن والفضاء، والرؤيا”، وتتخذ سمة زمنٍ أبديٍّ جامع، يرقى الشعر فيها إلى أعلى ذراه، خائضاً غمار الكشف عن الانسان في علاقته مع البشر والطبيعة والخالق. وهنا يتبدّى التصوف نظرة إلى الوجود تبدو فيها الطبيعة على اختلاف مظاهرها تجليّاً خاصّاً للجمال الإلهيِّ، فهي تتكشّف بوصفها شواهد على الأصل، وألسنةً تنطق به وتفصح عنه. وفي هذه النظرة إلى الوجود يتجاوز التصوف معنى العبادة إلى جوهر الحبّ؛ هذا الحب يعزز معنى العبادة ولا يلغيها، فإذا كانت العبادة تعني الطاعة والخضوع والانقياد، فإن الحب هو جوهر تلك العبادة؛ لأنّه قيامٌ بحكم المحبوب وإرادته، ومن ثمّ فالعبادة هنا علاقة حب تنجذب معها المظاهر الطبيعية إلى أصلها الالهيّ. وقد تبدّت الرؤيا، التي هي أداة المعرفة الصوفية، في لغة الشعر الصوفي التي مثلت تجاوزاً وتحولاً عن لغة المجتمع نحو لغة أخرى تنمو على مستوياتٍ متعدّدةٍ دون أن تعد بنهايةٍ وهنا يكشف د. وفيق عن صلة القصيدة الصوفية بتراثها الشعريّ، على الرغم من أنها وليدة الفكر الصوفي.
أما في دائرة الإبداع فتحدثت د. ريان قائلة: تتبدى النزعة الصوفية في كثير من شعر د. وفيق، وهي تكشف عن الأنا في قلب العالم، أو تمتدُّ رؤاه الشعرية والصوفية إلى ما وراءه. ومن هذه النماذج مجموعة (كما لست أنت) ففي عنوانها مسحة صوفية، تتفرّع معانيها في فضائها ومن ذلك قوله:
لأنّكَ في حياة الموت
وخارج التركيب
كن خياراً لآخر
غير ما يفرده على منافذ المعنى
من ريش ذيله المكسوّ
بخمائر الضوء
لأنّك أنت
كما لست أنت.
الضمير (أنت) هنا هو تحويل ذاتي للضمير (أنا)؛ أي: أنا الإنسان الذي تحكمه ثنائية الحياة والموت والوجود والعدم. وهذا الجمع بين الأضداد يعبر عنه الشاعر بوضوح في قوله:
لستُ إلا أضدادي
في هذه المغامرة
حتّى الساعة التي أدور فيها
تثبّتُني في تردّدها المنتظم
من أنا..
لأكون دليل الكشف عن هذا الغياب.
فكان السؤال المؤخر (من أنا؟) جوابه في العبارة المقدّمة (لست إلّا أضدادي) لتظهر المراوحة بين التردد والثبات، والكشف والغياب، وهذه الثنائية تنفتح على معانيها العميقة في التجربة الصوفية التي تعدُّ تجربة الكشف، وتسعى إلى تحقيق الوحدة في عالم تسوده المتناقضات، ولا سيّما في فلسفة وحدة الوجود.
• اصدارات
سدت كتب د. وفيق سليطين فراغاً في المكتبة العربية، ووضعته في صف النقاد المرموقين عبر اثني عشر كتاباً مطبوعاً. هناك أربع مخطوطات للراحل قيد النشر لتصبح عدد مجموعاته الشعرية عشرين مجموعة.