قهر الاغتراب.. انتصار للحياة وانعكاس لعمق التجربة الإنسانية

رنا بدري سلوم:

أقسى تجربة عاشتها شخصيّات الكاتب هي الاغتراب المسكون بأطياف العذاب والحرمان ومتاهات الضياع عبر لغة تؤثّر في من يقرأ أعماله لتتغلغل في أعماق الروح وتغرس سكاكينها فيها مظهرة له الصراعات النفسية للشخصيات الروائيّة.

لا تزال ظاهرة الاغتراب مادة دسمة للدراسة والتأمل بسبب التطوّر المستمر لمشكلة تأقلمنا مع الواقع، فالاغتراب ليس أن تترك وطناً بل أن تعيش فيه بغربة، هذا الاغتراب النفسيّ تناوله شيخ الرواية السّورية حنا مينه في رواياته الأربعين، وقد أبدع الدكتور عبد الحميد الحسين في إظهار الاغتراب في روايات مينه لكشف تأثيراتها النفسية في الشخصيات الروائية، نظراً لانتشار الظاهرة بين الأوساط الاجتماعية، وذلك في كتاب بعنوان” الاغتراب في أعمال حنه مينه، روايات التسعينيات أنموذجاً ” صادراً عن اتحاد الكتاب العرب.

مينه أنموذجاً

استطاع حنا مينه أن يقدّم صورة واقعية للمجتمع وسبر أغوار النفس الإنسانيّة وتقديم ما يعانيه الفرد في المتن السردي لرواياته باستخدام الحوار حيناً والوصف حيناً آخر، فغدت بذلك أعماله صرخات تثبت الضياع والتشتت الذي أجمع له معجماً اغترابياً خاصاً بأعماله من خلال المعاناة المشتركة بين الكثير من شخوصه الروائيّة.

فمنذ أن كان طفلاً يبيع والده الحلويّات “المشبك” وأخواته يعملن خادمات في منازل الأغنياء، عاش طفولته البائسة، في إحدى قرى لواء الإسكندرون، أخذ الابتدائيّة الشهادة الوحيدة التي نالها، أوقف تعليمه لسوء وضعه المادي وعاش حياة صعبة، وانتقل إلى دمشق للعمل بالصحافة اضطرته ظروف سياسيّة قاهرة إلى الرحيل عن سوريا، سافر إلى لبنان والصين والمجر، ووقف في وجه الاستعمار الفرنسي وعمره اثنا عشر عاماً.. كتب الروايات والقصص يتحدّث في معظمها عن البحر وتمرّده واغترابه.

الاغتراب النفسي بدا واضحاً في شخصيات رواياته، قال ذات يوم: ” لقد بدأت حياتي الأدبية بكتابه القصة القصيرة عام ١٩٤٥ ونشرت أقاصيصي في صحف ومجلات سوريا ولبنان لكنني لم أجمعها ولن أجمعها وبعضها ضاع وأنا، كما قلت في مناسبات عديدة، غير آسف عليها”، فكانت أولى رواياته المصابيح الزرق ١٩٥٤.

الكفاح الفرِح

تصدّرت قضايا المجتمع المسحوق، قصصه، فاستطاع أن يفاجئ القارئ ويذهله، فاستلهم أحداث رواياته من كفاح الفقراء والمعدومين من المجتمع، ومن الأحياء الفقيرة، ومن نضال الشرفاء في وجه الاستعمار الفرنسي، وأكد في وصيّته أن” تكريسه لأدبه كان لنصرة الفقراء والبؤساء والمعذّبين في الأرض”، كما كان شديد الالتصاق بقضايا الإنسان وهذا ما دفعه ليعيد نفسه كاتب “الكفاح الفرح ” يقول: ” إن الرواية بالنسبة لي تجربة حياتيّة مصدرها ما عشته ورأيته، بل أكثر من ذلك ما عانيته معاناة قاسية وأليمة دون أن تكون هذه المعاناة على قسوتها خالية من الفرح ما دامت تقترن بالكفاح وبذلك تكون السمة البارزة للرواية الفنية انكبابها على الواقع”.

رحل حنا مينة عن عمر يناهز أربعة وتسعين عاماً، وقد رشحه نجيب محفوظ لجائزة “نوبل”، وهو الذي أطلقت عليه عشرات الألقاب مثل “شيخ الرواية السورية أو بلزاك الرواية السورية أو زوربا الروائيين العرب”، موقناً أن من الكتاب القلائل الذي يصعب أن يكون لهم مثيل أو بديل.

رحل وقد كتب وصيته” عندما ألفظ النفس الأخير، آمل وأشدد على هذه الكلمة ألا يذاع خبر موتي في أي وسيلة إعلاميّة مقروءة أو مسموعة أو مرئيّة فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي”.

شتات الفكر والروح

عانى الإنسان قديماً وحديثاً الاغتراب، فواجهه بشتى الطّرق المشروعة، منهم من استطاع قهره ، ومنهم من ركن واستسلم له، وبنظرة تاريخية إلى الاغتراب، وكما جاء في الكتاب ” يكون قديماً قدم الإنسان على هذه الأرض، فأول شخص شعر بالاغتراب هو سيدنا آدم عليه السلام فبعدما كان منعّماً في الجنة عصى الله تعالى فأنزله إلى الأرض، فكان اغتراب ـ آدم ـ مكانيّاً ونفسيّاً”.

وقد أكد النظرة التاريخيّة للاغتراب كثير من النقّاد والأدباء، فمنهم من وجدوه ” مستنقع كبير لا يستطيع الخروج منه بسهولة، فهو التشتت الذهني والنفسي الذي يصيب الفرد ويعزله عن المجتمع”، وهو ” الحالة التي يتعرض فيها الإنسان إلى الضعف والعجز والانهيار في الشخصية”، لذلك يعد الاغتراب من أخطر الأمراض النفسيّة التي تصيب الإنسان، فهو الدافع الأول والرئيس الذي يدفع الشخص إلى الانتحار.

اغتراب الفلاسفة

مفهوم الاغتراب متداخل في شتى مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لذلك ذكرها “أفلاطون وهيجل وروسو”، وقد يبرز مفهوم الاغتراب خلال الحرب الباردة وظهر في الكثير من الكتابات التي بدأت تتطرق إليه، وشق طريقه إلى القواميس في الستينيات، ومع أفلاطون الذي يعد من أعظم الفلاسفة القدماء على الإطلاق، نتساءل: هل عرف أفلاطون الاغتراب؟

هل تطرق إلى مفهوم الاغتراب في أعماله؟

من خلال الاطلاع على بعض الأعمال وجدنا أنه لم يعرف الاغتراب، ولم يتطرق إليه في كتاباته صراحة، ولكن عاش الاغتراب الاجتماعي، وبدأ يحلم بمدينة فاضلة، تقوم على العدل والمساواة، وقد تكلم شاخت عن اغتراب افلاطون في كتابه الاغتراب ” إن اغتراب أفلاطون عن المجتمع ليس بحاجة إلى أن نستنبطه من تأملاتنا حول أصل الفلسفة، كما أننا لن نحتاج إلى الاعتماد على المقتطفات المتناثرة من كتاباته، فإذا ما تأملنا عمله الضخم في الفلسفة السياسية والاجتماعية وهو كتاب “الجمهورية” الذي يعتبر بصفة عامة رائعته الحقيقية لوجدنا أنه عمل رجل مغترب عن المجتمع وعن سياسات وأخلاقيّات عصره.

أما ” هوجو جروتيوس “فقد نظر إلى اصطلاح الاغتراب من خلال نظرته العقد الاجتماعي، وذهب إلى أن السلطة السياديّة على الذات تشبه حق الملكية يقول “كما أنه بالوسع تغريب الأشياء الأخرى بمعنى نقل ملكيتها لشخص آخر فكذلك يمكن نقل السّلطة السياديّة وبذلك لا يملك المرء حرية التصرف كيفما يريد، لأنه نقل سلطته السياديّة على ذاته إلى شخص آخر ” وبالانتقال إلى “توماس هوبز” وجون لوك يلاحظ أنهما قد استخدما مصطلح الاغتراب بطريقة مختلفة، هوبز يرى أن “إسقاط حق لإنسان ما في أي شيء هو تجريد له من حريته في أن يحول دون استفادة شخص آخر من حقّه في نفس الشّيء فالحق يسقط إما بالتخلّي عنه أو بنقله إلى شخصٍ آخر”.

آخر الأخبار
توزيع سلل صحية في ريف جبلة مرسوم بمنح الموفد سنة من أجل استكمال إجراءات تعيينه إذا حصل على المؤهل العلمي مرسوم يقضي بالسماح لطلاب المرحلة الجامعية الأولى والدراسات العليا المنقطعين بسبب الثورة بالتقدم بطلب... مرسوم بمنح الطالب المستنفد فرص الرسوب في الجامعات والمعاهد عاماً دراسياً استثنائياً مرسومان بتعيين السيدين.. عبود رئيساً لجامعة إدلب وقلب اللوز رئيساً لجامعة حماة   انفجارات في سماء الجنوب السوري منذ قليل إثر اعتراض صواريخ إيرانية أوقاف حلب.. حملة لتوثيق العقارات الوقفية وحمايتها من المخالفات والتعديات تفعيل النشاط المصرفي في حسياء الصناعية تحديد مسارات تطوير التعليم في سوريا تعاون  بين التربية و الخارجية لدعم التعليم خطط لتطوير التعليم الخاص ضمن استراتيجية "التربية"   تجارة درعا.. تعاون إنساني وصحي وتنموي مع "اينيرسيز" و"أوسم" الخيرية بدء توثيق بيانات المركبات بطرطوس الهجمات تتصاعد لليوم الرابع.. والخسائر تتزايد في إيران وإسرائيل صالح لـ (الثورة): أولى تحدّيات المرحلة الانتقالية تحقيق الاستقرار والسلم الأهل مشاركون في مؤتمر "الطاقات المتجددة" لـ"الثورة ": استخدام الموارد بشكل أكثر كفاءة ودعم البحث العلمي قتلَ وعذبَ معتقلين في مشفى المزة العسكري.. ألمانيا تحكم بالمؤبد على أحد مجرمي النظام المخلوع  "تجارة إسطنبول": نجري في سوريا دراسة ميدانية لفرص الاستثمار "الفيتو الأميركي".. هل حال دون اغتيال خامنئي؟.. نتنياهو يعلّق الفساد المدمِّر.. سرقة الكهرباء نموذجاً عطري: العدادات الذكية ليست حلماً بعيداً بل هي حل واقعي