وإذ بالكثير من السوريين يمتلكون – ما شاء الله – ثقافة تأمينية رفيعة المستوى، ولكن يبدو أنهم يعرفون جيداً متى يستخدمونها ومتى لا يفعلون.
منذ أن تأسست شركات التأمين الخاصة في عام /2006/ درجت على ألسنتها وعلى منصاتها، وفي تقاريرها وندواتها ومؤتمراتها وقعداتها وروحاتها و(جيّاتها) عبارة أن (المواطن السوري يفتقر للثقافة التأمينية) ولا يزال جاهلاً في إدراك أهمية التأمين.
والغريب أنه على الرغم من هذه الأوصاف القاسية لم تستطع شركات التأمين على مدى ستة عشر عاماً أن تُغيّر شيئاً من مسار السوريين بهذا الاتجاه، فالشركات ما تزال تَصفهم بالصفات ذاتها، وتحثّ المجتمع على أن يُفتّح عينيه جيداً ويدفع بأبنائه نحو شركات التأمين، كي يؤمنوا على أموالهم ومنازلهم وصحتهم وسفرهم، وسياراتهم و – لا سمح الله – على الحرائق التي يمكن أن تحصل عندهم، وحتى على شيخوختهم وحياتهم .. وإلى ما هنالك من المنتجات التأمينية.
ولكن فجأة – وعلى حين غرة – أثبت السوريون أنهم ليسوا غير مثقفين تأمينياً، ولا هم بجهلاء عن هذا البيدر، لا بل يمتلكون إرثاً ثقافياً ضخماً لا يُشقّ له غبار في هذا المجال، وقد بدا هذا جليّاً من خلال تعاملاتهم مع بعض القضايا التأمينية التي أثبتوا من خلالها أنهم يتجاوزون مسألة الثقافة التأمينية بمسافات بعيدة، وقد تعاملوا ببرودة أعصاب مع اتهامات الشركات لهم لأنهم يعيشون خارج هذه الأجواء أصلاً، وهم بمعزلٍ عنها، حيث يغرقون في حالة من الفقه التأميني التي كانت قد أهّلتهم للالتفاف على مبادرة التأمين الصحي للعاملين في الدولة التي دفعت بها حكومة (العطري) إلى الواجهة بقوة، وصارت أمراً واقعاً بالفعل.
وذلك الالتفاف تمثّل بقدرة المؤمّن عليهم بأن يختلقوا أمراضاً ليست بهم، وأن يدفعوا ببعض الأطباء كي يسطروا لهم وصفات طبية تتضمن أدوية لا يحتاجونها، أو أحياناً يحتاجونها ولكنهم يستغنون عنها ليلعبوا بعقول بعض الصيادلة ويقنعوهم باستبدالها بأدويةٍ أخرى أو مواد غير علاجية كمواد التجميل ومعاجين الحلاقة والأسنان والشامبوهات .. وما إلى ذلك.
هذا القفز المُتقن فوق بوليصة التأمين الصحي، وهذا الاحتيال على العقد وعلى شركات التأمين وعلى شركات إدارة النفقات الصحية مجتمعة لا يمكن أن يحصل دون فقهٍ مُعمّق والغوص بقوة في كنه الثقافة التأمينية، غير أن مثل هذه الثقافة – مع الأسف – لو أنها انتشرت عند الجميع لكانت كفيلة بإغلاق شركات التأمين وإدارة النفقات التي سيكون مصيرها الإفلاس المحتم بعد حين نتيجة الخلل الذي يقع بين الأقساط وقيمة الخدمات.
يبدو أن شركات التأمين وإدارة النفقات استطاعت أن تضع حداً وحواجز قوية في وجه هذه الثقافة السيئة، حيث أشارت بعض التقارير مؤخراً إلى تراجع حالات الاحتيال المكتشفة في هذا المجال، ما يثير الاطمئنان إلى أن العملية التأمينية الصحية ستسير نحو الأفضل، وعلى الملأ نقول لهؤلاء ( المثقفين ) دعوا فقهكم جانباً وتواضعوا في تخفيف المسافة الثقافية ولا تبتعدوا كثيراً .. كي لا تضيعوا.