الثورة: هفاف ميهوب
يعترف الروائي الأرجنتيني “أرنستو ساباتو” قبل رحيله، وعندما كان في التاسعة والثمانين من عمره، وفي آخر كتبه “الممانعة”.. بأن مشاعر انتابته ذات ليلٍ استيقظ فيه فجراً، وجعلته يفكّر بكيفية جعل الحياة أكثر إنسانيّة، وأقلّ انحطاطاً..
يعترف بذلك، وبأن صوراً كابوسيّة أليمة تراءت له وجعلته يرى، بأن “المجتمع مريض”، و”الإنسان أشبه بآلةٍ عمياء” تفتقد التفكير، والحوار والقيم والمحبّة، وبالتالي إمكانيّة التعرّف والتواصل مع العالم المحيط..
إنه الواقع الذي تلمّس فيه، مقدار ما باتت فيه روح الإنسان وحواسه، خاوية وبائسة وضامرة، وبسبب ما يعيشه من عزلةٍ لا إنسانية.. عزلةُ العالم المعاصر، حيث كلّ الأشياء:
“كلّ الأشياء باتت اليوم معلّبة، بل وبات البعض يستعين بالحاسوب لاقتناءِ حاجياته.. هذه النافذة الافتراضيّة، ستغدو الكوّة الوحيدة التي سيطلّ الناس من خلالها على الحياة.. بناءٌ على ذلك سوف تدفع الحياة الجميع إلى اللامبالاة..”…
نعم، هكذا بات واقعنا وحال إنساننا، ما اضطرّ “سوباتو” لتقديم خمسة رسائل توعية، تحمل عناوين: “الصغير والكبير” و “القيم القديمة” و”بين الخير والشرّ” و”قيم الجماعة”.. و”الممانعة”..
هي رسائل، يدعونا من خلالها، وبعد أن وجدنا عاجزين عن خلقِ أيّ عالمٍ جمالي داخل حدودنا الصغيرة، وعاجزين عن الابتكار، خارج إطار شؤوننا المهنية التي بات طابعها غير إنساني، وتنافسي.. يدعونا، للكثير من الأمل، ولتغيير ذهنيّتنا كي نتمكن من استعادة حيازة بساطة المكان الذي نعيش فيه.
يدعونا أيضاً، لانقاذ ما تبقى من قيمٍ، في ظلال اختفاء حتى رونق مدننا، وبراءة وعفوية وخير إنساننا، وفي ظلّ استعباد الآلة لنا، وهيمنة رأس المال المتوحش:
“بمقدار ما ننسلخ عن المشاريع التي ظلّت تستبدّ بنا، وتشغلنا على امتداد العمر، بمقدار ما ندنو من تلك الأرض التي ارتبطت بها سنواتنا الأولى، وانفصلنا عنها بفعلِ فجوات الزمن، والمسافات الشاسعة”.
حتماً هو أمل كلّ من شعر بـألم “سوباتو” الأخير، ولا سيما في “القرار والموت”، حيث الخاتمة وإعلانه:
“في داخلي أملٌ عارم، يتّصل بكيفية مفارقة لوضعنا الوجودي الراهن، الذي يتّسم بالضحالة والفقر.. يتّصل أيضاً، بتلك الرغبة التي لابد أن أكشف عنها، برؤية تفيد بأن: “شيئاً كبيراً سوف يضطرّنا للاعتناء، بهذه الأرض التي ظلّت تجمعنا فوق سطحها”…