قالها بحسرة: أعتقد أن التفاهم مع أولادي بات صعباً للغاية، إن لم أقل مستحيلاً، فالمسافة بين تفكيرنا، صارت أبعد بكثير مما أتخيل، فهم يعيشون زمناً، مثلنا يسمونه وقحاً، فما تعلمناه عيباً في زماننا، لن تجده في قواميس زمنهم الحالي، فصار لزاماً عليك أن تجادلهم بالحسنى، وإلا ابتعدوا عنك واتهموك بالتخلف، والعصبية العمياء.
وتابع: قوانين ذلك الزمن لم تعد تنفع، ولم تشفع لك عندهم خبرة السنين، وشقاء الأيام، وقسوة الحياة، التي عاشها آباؤهم، ولا معدلات الألم، الذي كابدوه في مسيرة عمرهم، كي ينعم الأولاد بما وصلوا إليه اليوم، فكلّ صعبٍ بات سهلاً بين يديهم، وخيارات الحياة واسعةٌ، ومفتوحةٌ أمامهم على مصاريعها، ووسائل الترفيه أكثر من أن تحصى.
هنا استذكرت قولاً لصديق قديم كان يشغل منصباً مهماً، عندما قابلته ذات صباح، والتعب يسيطر على ملامح وجهه، وخطواته المتثاقلة، تخبرني أنه لم يعرف النوم في تلك الليلة.
سألت صديقي، فأخبرني أن صراعاً لفظياً، وقع بالأمس بينه وبين ولده الجامعي الذي كان يستعد للمشاركة مع زملاء الدراسة، للقيام برحلة للمناطق الساحلية، فطلب من والدته مالاً يحتاجه في رحلته، فأعطته مبلغاً، لم يرض عنه، فأرعد وأزبد، محتجاً بعدم كفايته لأبسط المصاريف، وطالب بأضعاف ما أعطته والدته من المال، وعندما رفضت لعدم توفر المبلغ، ارتفع صوته، وصار يشتم عمره وإهمال أهله له، وأن الدنيا تغيرت.
يقول صديقي: هنا صار من الضروري التدخل ففي زمننا لم نكن نجرؤ أن نرفع رأسنا وصوتنا بحضور أهلنا، فذلك من العيب وقلة الاحترام.
المهم حاولت أن أكون حضارياً مع ابني الجامعي، فدخلت معه في حوار، وقلت له: يا صديقي، لن أتحدث في الغلط الذي وقعت به بارتفاع صوتك، في وجه والدتك وبحضوري، لكنني سأخبرك بما عاناه والدك، فلن أنسى أنني ولدت في عائلة فقيرة الحال، عانى جدك – والدي- شطف العيش، وقسوة الحياة فكان يعمل أجيراً زراعياً لدى الناس، حتى ربّاني وعلّمني لأصل لما وصلت إليه، جدك جاع كي يطعمنا ما تيسر من طعام، وحرم نفسه شراء الثياب ليقدمها لنا، وأنا كنت أعمل حين يسمح الوقت، لأساعد في مصاريف الدراسة.. وأنت اليوم مطالب أن تشكر ظروفك، وما توفر لك من محاسن الحياة، وأن تدرك أن المال لا يأتي بالسهولة التي تجعلك تطلب ما طلبت من والدتك.
هنا أجابني بهدوء، فاعتقدت أن طريقتي نجحت بإقناع ولدي، فقال: احترم كل ما ذكرت بي أبي، فطبيعي أنك تعاني، وعانيت كثيراً لتصل إلى ما أنت فيه، فأبوك ذاك المزارع الفقير، الذي كافح وصبر ونال، أمّا أنا فابن رجلٍ يشغل منصباً مهماً اليوم، ومن حقي العيش بما يعنيه هذا المنصب، فأنا لا أطلب عيباً، أو حراماً لا سمح الله.. فما أنفقه لا يذكر أمام ما ينفقه أبناء من هم اليوم أقل مكانة من والدي!.
هاتان القصتان تؤكدان حالة تتكرر في معظم بيوتنا، هي ببساطة ما يسميه رجال علم الاجتماع، بصراع الأجيال، فمن غير الممكن أن نجعل من أبنائنا نسخاً متطابقة لنا، وإن كانوا بالضرورة، يحملون جيناتنا المورثّة، وعلينا أن نعترف، ونتقبل أن الأبوين، لم يعودوا وحدهما المسؤولين عن تربية أولادهما، فروافد التربية، صارت أوسع من دائرة البيت، والأسرة الضّيقة، خاصة مع التطور الهائل في وسائل الاتصال، وتكنولوجيا التواصل، والمعلومات، ومع تعدد وسائل ونظريات، وأساليب التربية والتعليم، وقديماً قالوا: “ابنك لا تعلّموا، بكرا الزمن بيعلموا”.
اليوم باتت الحياة تفرض شروطها في تعليم أولادنا، الأمر الذي يدفعنا بمحبة، أن نوطّن أنفسنا على استيعاب رغباتهم، وأن نستمع لكلماتهم، ونعطيهم الثقة بنا وبأنفسهم، وأن نعمل ما بوسعنا لدعمهم، وتفعيل قدراتهم الداخلية والذاتية، لاتخاذ القرارات التي تناسب حياتهم، وميولهم، فلا مكان عندها لفجوات، أو مسافات تباعد بيننا وبينهم.
وعلى الأبناء أن يدركوا بالمقابل حال أهلهم، خصوصاً مع ارتفاع فاتورة تكاليف الحياة، وضيق الحال، والارتفاع الجنوني للأسعار، وزيادة معدلات الإنفاق لتأمين الضروري للبيت من حاجات ومستلزمات ومعيشية، فإذا كانت طبيعة الحياة الجديدة تدفعهم للمزيد من النفقات، فلا جود إلا بالموجود.. فليعذرنا أولادنا، وليكونوا على قدر المسؤولية، لتحمّل آبائهم ويكونوا عوناً لهم في كبرهم.
ليس صحيحاً أن ما نفكر به – نحن معشر الكبار سناً – هو الصحيح اليوم، وإن كنّا نعتقد ذلك، فربما أصاب أولادنا وأخطأنا نحن، وعلينا الاعتراف، بحاجتنا للراحة، فليقود شبابنا السفينة، متكئين على حكمة كبارهم، ومتأكدين من محبتنا، وحرصنا على نجاحهم، وتفوقهم فمن خلالهم، نعرف جدوى ما زرعنا في حياتنا، فإن خيراً فالكل يستفيد.
دعونا نفسح في المجال لأبنائنا أن يفعّلوا مساحة التفكير، ويزيدوا معدلات تفاعلهم مع الحياة ومحيطهم، وأن نكون لهم عوناً لاتخاذ قراراتهم، التي تخدم حياتهم ومستقبلهم، عندها لن يجدوا سنداً لهم سوانا، ومن ليس لديه كبير، فليبحث عنه أو ليشتريه إن استطاع.
بشار الحجلي