قدرات سورية 1000.. توثيق الكفاءات في مسار بناء الدولة الجديدة

الثورة-مها دياب:

في لحظة مفصلية من تاريخ سوريا، حيث تتقاطع الحاجة إلى إعادة الإعمار مع ضرورة استثمار الطاقات الوطنية، تبرز مبادرة “قدرات سورية 1000” كمشروع وطني استراتيجي يسعى إلى توثيق الكفاءات السورية وربطها بمسارات التنمية.

المبادرة، التي أطلقت بالشراكة بين “الاقتصادي سوريا” ومنصة “من هم”، لا تكتفي بجمع الأسماء، بل تسعى إلى بناء سردية وطنية جديدة، قائمة على الكفاءة، الريادة، والتمكين. في ظل التحديات التي تواجه سوريا بعد سنوات من النزاع، تمثل هذه المبادرة خطوة عملية نحو إعادة بناء الثقة، وتأسيس قاعدة معرفية ومهنية يمكن الاعتماد عليها في رسم السياسات، وتشكيل القيادات، وتوجيه الاستثمارات. إنها دعوة مفتوحة لكل من يحمل خبرة أو تأثيراً للمساهمة في بناء سوريا الجديدة، من الداخل والخارج.

استعادة العقول المهاجرة

أطلقت مبادرة “قدرات سورية 1000” في يناير 2025، بهدف توثيق 1000 شخصية سورية مؤثرة في مختلف القطاعات، داخل سوريا وخارجها. وتأتي هذه الخطوة في سياق وطني يسعى إلى استعادة العقول السورية المهاجرة، وتفعيل دورها في التنمية، بعد سنوات من النزيف البشري والمعرفي. المبادرة تعتبر الأوسع نطاقاً والأكثر تنظيماً، إذ تستند إلى معايير واضحة، وتدار بشراكة مؤسسية بين جهات إعلامية ومجتمعية، ما يمنحها مصداقية وتأثيراً متزايداً. وقد سبقتها محاولات فردية أو مؤسساتية لتوثيق الكفاءات، لكنها غالباً ما افتقرت إلى الاستمرارية أو الشمولية. وما يميزها هو أنها تنطلق من منطق التعدد والتمثيل، حيث تسعى إلى تغطية مختلف المحافظات والقطاعات، وإبراز التنوع السوري في مجالات العمل والإنجاز. كما أنها تفتح باب الترشيح للجمهور، وترحب بالملاحظات، ما يعزز طابعها التشاركي.

معايير الاختيار

تعتمد المبادرة على خمسة معايير رئيسية لاختيار الشخصيات، تم تطويرها لضمان التوازن بين التوثيق المهني والتمثيل المجتمعي، وهي: تبدأ بالخبرة المهنية أو الأكاديمية: حيث يشترط أن يكون للمرشح سجل موثق في العمل داخل سوريا أو خارجها، في مجالات تنموية، اقتصادية، تعليمية، اجتماعية، تقنية، إعلامية أو ثقافية. لا يشترط عدد محدد من سنوات الخبرة، بل يركز على القدرات القيادية والريادية في مختلف الأعمار والقطاعات. إلى الريادة والابتكار: ويؤخذ بعين الاعتبار دور المرشح في إنشاء أو تطوير مؤسسات أو مبادرات أو مشاريع ذات أثر مجتمعي أو اقتصادي واضح، وقدرته على ابتكار حلول لمشكلات واقعية وقيادة التغيير في بيئات معقدة. يفضل أن يكون للمرشح سجل في المبادرة أو التجديد، لا مجرد الاستمرارية.مع القيادة والتأثير: حيث يفضل أن يكون للمرشح تجارب مثبتة في قيادة فرق أو مؤسسات أو مبادرات، مع قدرة على التأثير الإيجابي في محيطه المهني أو المجتمعي، سواء عبر العمل المباشر أو من خلال الإعلام والتواصل.

يؤخذ بعين الاعتبار حجم التأثير ونوعه، ومدى استمراريته. والتمثيل الجغرافي والقطاعي: الذي يعد عاملاً أساسياً، حيث تسعى المبادرة إلى تمثيل مختلف المحافظات السورية، والقطاعات المهنية، لضمان التنوع والعدالة في التوثيق، مع مراعاة التوازن بين الداخل والخارج، وبين القطاع العام والخاص، وبين الذكور والإناث، وبين الفئات العمرية المختلفة. وأخيراً الاستعداد للمساهمة في إعادة الإعمار: يؤخذ بعين الاعتبار مدى استعداد الشخص للمساهمة في عملية إعادة بناء سوريا، سواء من خلال العودة، أو عبر مبادرات عن بعد، أو من خلال التأثير الإعلامي أو الأكاديمي أو الاستشاري. يفضل أن يكون للمرشح رؤية واضحة حول دوره في المرحلة القادمة.

الإعلان عن الدفعة السابعة

في أكتوبر 2025، تم الإعلان عن انضمام 100 شخصية جديدة إلى القائمة، ليصل العدد الإجمالي إلى 700 شخصية سورية موثقة. وتستمر عملية التحديث بشكل دوري، بمعدل 100 اسم في كل دفعة، حتى الوصول إلى 1000 اسم بحلول ديسمبر 2025. تضمّ القائمة شخصيات من مجالات متعددة تشمل الإعلام، الاقتصاد، العلوم، التعليم، ريادة الأعمال، الثقافة، والمجتمع المدني، ما يعكس غنى وتنوع المشهد السوري.

ويعد ترتيب الظهور في الدفعات غير مرتبط بالأهمية، إذ تخضع جميع الأسماء لنفس معايير الاختيار، ويمنح لكل دفعة فرصتها من التغطية والظهور. وقد لاقت الدفعة السابعة ترحيباً واسعاً من الجمهور، خاصة أنها ضمّت أسماء جديدة من مناطق لم تكن ممثلة سابقاً، وشخصيات شابة أثبتت حضورها في مجالات ريادية. كما أن الإعلان عنها جاء في توقيت حساس، يتزامن مع إطلاق خطط وطنية للتنمية، ما عزز من رمزية المبادرة.

الأبعاد الاستراتيجية للمبادرة

في إطار تسليط الضوء على الأبعاد الاستراتيجية لمبادرة “قدرات سورية 1000″، وما تحمله من تأثيرات وطنية متعددة، كان لنا لقاء مع المحلل الإداري والاقتصادي الأستاذ خالد سنيور، الذي تحدث عن أهميتها وانعكاساتها على التنمية المؤسسية والمجتمعية في سوريا، مؤكداً أنها تجاوزت كونها مجرد قائمة أسماء، لتتحول إلى مشروع وطني استراتيجي متعدد الأبعاد، يمكن تلخيصه كما يلي:

1. البعد التنموي أكد سنيور أن المبادرة تسهم في بناء قاعدة بيانات معيارية للكفاءات السورية، تُستخدم في دعم السياسات العامة، وتوجيه التخطيط الاستراتيجي في مجالات التوظيف والاستثمار، كما بيّن أنها تتيح رصد الفجوات المعرفية والمهنية واقتراح حلول عملية لسدّها، بما يعزز من كفاءة الموارد البشرية الوطنية.

2. البعد المؤسساتي وأوضح أن القائمة يمكن أن تُستخدم كأداة عملية لاختيار القيادات المحلية والوزارية، وتشكيل فرق العمل في المشاريع الوطنية، فضلاً عن كونها مرجعاً موثوقاً للمؤسسات الدولية الباحثة عن شركاء محليين ذوي كفاءة ومصداقية.

3. البعد الإعلامي وبين أن المبادرة تُسهم في صياغة سردية وطنية إيجابية تُبرز النماذج الناجحة، وتُعيد الاعتبار للخبرة والكفاءة كمصدر للشرعية.

كما أكد أنها تساهم في تغيير الصورة النمطية عن سوريا، من بلد نزاع إلى بلد إمكانات، وتدعم الإعلام المحلي في إنتاج محتوى تنموي ملهم.

4. البعد المجتمعي وأكد على أن آلية الترشيح والتفاعل تحفز الشباب على تطوير مهاراتهم والانخراط في العمل العام، وتعزز ثقافة التقدير والاعتراف، بما يعيد الاعتبار للجهد الفردي والجماعي، ويشجع على المبادرة والابتكار.

5. البعد الدولي كما أكد سنيور أن هذا البعد يمثل أحد أكثر أبعادها استراتيجية وتأثيراً، إذ يتيح فرصة حقيقية لإعادة تقديم سوريا على الساحة العالمية، ليس من خلال سردية النزاع أو اللجوء، بل عبر سردية الكفاءة والريادة.

ويرى أن المبادرة تشكل منصة معيارية يمكن دمجها ضمن قواعد بيانات ومنصات دولية تعنى بالتنمية، الابتكار، والقيادة، ما يمنح الكفاءات السورية فرصة للظهور والمشاركة في مشاريع إقليمية وعالمية.

ويسهم في بناء جسور تواصل فعالة بين الداخل السوري والمجتمعات المغتربة، من خلال تحفيز الكفاءات في الخارج على العودة أو المساهمة عن بعد، سواء عبر الاستشارات، التدريب، أو الاستثمار المعرفي.

بالتالي إن هذه المبادرة تُعيد تعريف العلاقة بين سوريا والعالم، عبر تقديم نموذج وطني قائم على رأسمال بشري مؤهل، يمكن أن يكون شريكاً موثوقاً في جهود إعادة الإعمار، والتنمية المستدامة، والتحول الرقمي.

الأثر الوطني والمجتمعي

ويرى المحلل الاقتصادي أن المبادرة تمثل نقلة نوعية في التفكير التنموي الوطني، إذ تعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وترسخ مفهوم الكفاءة كمدخل أساسي للشرعية والمشاركة العامة، بحيث تصبح منظومة متكاملة لإعادة بناء الثقة، وتفعيل الطاقات، وتوجيه السياسات نحو الإنسان المنتج والمؤثر.

ويؤكد أيضاً أن أحد أبرز آثار المبادرة يتمثل في تعزيز الثقة بالمؤسسات الجديدة، من خلال تقديم مرجع وطني موثوق يُعتمد في عمليات التخطيط، التوظيف، وتشكيل فرق العمل.

هذه القاعدة المعرفية لا تخدم فقط الجهات الحكومية، بل تعد أداة استراتيجية للقطاع الخاص والمجتمع المدني، بما يسهم في تحسين جودة القرارات، وتوسيع قاعدة المشاركة، وتفعيل مبدأ الاستحقاق.

كما يلفت إلى أن المبادرة تسهم في إعادة تشكيل الوعي المجتمعي، عبر إبراز النماذج الناجحة التي تمثل مختلف المحافظات والقطاعات، ما يعزز من ثقافة الاعتراف والتقدير، ويعيد الاعتبار للجهد الفردي والجماعي، ويحفز الشباب على تطوير مهاراتهم والانخراط في العمل العام، حيث إنها تحول الكفاءة من حالة فردية إلى قيمة وطنية جامعة.

وفي السياق الإعلامي، يرى سنيور أنها توفر محتوى تنموياً غنياً، يمكن وسائل الإعلام من تجاوز الخطاب التقليدي القائم على التكرار أو السلبية، نحو سردية وطنية بناءة تبرز الإمكانات، وتعيد صياغة صورة سوريا كدولة حاضنة للخبرات، لا مجرد ساحة للأزمات.

هذا التحول في الخطاب يسهم في تعزيز الانتماء، وتحفيز الأمل، وتوسيع دائرة التأثير الإيجابي.

ويضيف أنها تفتح المجال أمام تأسيس منصات تخصصية جديدة، تعنى بمجالات نوعية مثل: التعليم، القيادة النسائية، الابتكار، أو التنمية المحلية، ما يعمق الأثر ويعزز من قدرة الدولة على الاستفادة من مواردها البشرية بشكل منهجي.

هذه المنصات لا تُكرّر النموذج، بل تُطوّره وتُخصّصه، بما يُسهم في بناء منظومة معرفية متكاملة تُخاطب احتياجات كل قطاع على حدة.

منظور توثيقي

وختم سنيور حديثه بالتأكيد على أن المبادرة تجسد تحولاً نوعياً في التفكير التنموي، حيث تنتقل من مرحلة الرصد إلى مرحلة التفعيل، لتصبح أداة استراتيجية في التمكين، وصناعة القرار، وإعادة بناء الدولة على أسس الكفاءة والمشاركة.

ويرى أن اكتمال القائمة لا يعني بلوغ النهاية، بل يشكّل نقطة انطلاق نحو مرحلة أكثر نضجاً، توظّف فيها الكفاءات الموثقة في مواقع التأثير الحقيقي، وتدمج ضمن فرق العمل الوطنية، والمجالس الاستشارية، والمبادرات التنموية، لتتحول من أسماء مدونة إلى طاقات فاعلة في صناعة التغيير، ليمتد ويرسخ ثقافة التمكين كمبدأ مؤسسي، ويعيد تعريف مفهوم المشاركة على أساس الاستحقاق والجدارة.

فالمبادرة، في جوهرها، تعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة، وتمهد الطريق لسوريا أكثر عدالة وكفاءة، تُبنى بسواعد أبنائها، وتدار بعقولهم وخبراتهم.

آخر الأخبار
بتمويل من السويد... مشروع لتعزيز مهنة القبالة  المدارس الافتراضية تربط أبناء الوطن بالتعليم الوطني    الشرع يلتقي وزراء الخارجية والداخلية والاستثمار السعوديين في الرياض منذر الأسعد: مؤتمر الأقليات في إسرائيل مشروع انتخابي والهجري يراهن على نزق نتنياهو للحماية  سوريا ترسم خرائط عودة تعافيها وتعبد طرقات اقتصادها بالاستثمارات ثمرة جهود مهندسي المهجر.. أول توءمة بين جامعة سورية وأمريكية 250 مليار دولار قيمة صفقات "مستقبل الاستثمار".. تعاون عالمي للازدهار المشترك رهان جريء.. صناديق الاستثمار دعم للاقتصاد السوري  سلامة البيئة المدرسية ضمانة لجودة التعليم وصحة الأجيال تراجع ملموس في إنتاج الزيتون لهذا الموسم وبنسبة 45 بالمئة  من فكرة إلى مشروع رابح.. تجربة رائدة في الزراعة الاستوائية  سوريا والسعودية.. شراكة لتعزيز الاتصالات والتحول الرقمي دعم صناديق الاستثمار في سوريا يعزز الاستقرار والتنمية قدرات سورية 1000.. توثيق الكفاءات في مسار بناء الدولة الجديدة تحذير أممي من فظائع وانتهاكات خطيرة في الفاشر وكردفان بالسودان  على ماذا يعتمد السلام الدائم في غزّة؟  الإعلان عن بدء تنفيذ المنحة القطرية السعودية لدعم فاتورة الأجور  عبد الحكيم المصري: مشاركة الشرع بـ"FII9 " تجسّد العلاقة الاستراتيجية بين دمشق والرياض  سوريا والرياض.. نحو شراكة اقتصادية تعيد رسم المشهد الإقليمي "أمان أطفالنا".. مشروع جديد لقطر الخيرية في سوريا