الملحق الثقافي- صالح السودة:
استقبلت أم أديب زوجها بابتسامة عريضة، وهي تقول: الحمد لله على السلامة الحمد لله على السلامة..، بعد أن أطلقت من بين شفتيها “زغرودةً” خجولة باستهزاء (للي للي ليش) كأنها صوت صغير الديكة يتعلم الصياح، والرجل يقول: ابتعدي ابتعدي من أمامي يا امرأة ألم تري أني منهك من التعب! وسلك طريقه إلى المطبخ فأنزل الجرة من على كتفه، ثم أخذ نفساً عميقاً ونفثه بقوة شديدة حتى تراءت له هموم عشر سنوات الحرب تتدحرج أمام عينيه فقال: احترسوا على كل نقطة في داخلها وإياكم أن تهدر بقصد أو من دون قصد! لأننا قضينا ستين يوماً ننتظر قدومها، ولا أدري متى يأتي دورنا في المرحلة القادمة.. ربما شهر أو شهران..! الله أعلم؟
لم تكن الفرحة التي شعرت بها أم أديب أقل من الفرحة التي غمرت قلب زوجها بعد حصوله على “جرة الغاز”، حيث جلس يسرد للعائلة قصة صديقه الذي حصل على الجرة منذ أيام مضت، إذ عمت الفرحة أرجاء البيت حتى ظن الجيران أنهم يحتفلون بعيد ميلاد طفلهم الصغير، فضحك الرجل وضحك الجميع، بعد ذلك عادت الذاكرة بأبي أديب إلى الماضي الجميل الذي عاشه مع أهله وإخوته في مرحلة طفولته البريئة، فتذكر والدته كيف كانت تصنع الطعام وخبز التنور على نار الحطب، وهو يشاهدها خلف “الموقد” الذي صنعته ربة البيت في جانب أحد أركان الدار الواسعة لذاك الغرض، وقال: كان والدي في تلك الأيام لا ينتظر رسائل البطاقة الذكية التي أتعبت قلوب الناس بالانتظار لإحضار الغاز أوالخبز..، ولا يأبه لذلك أبداً في ذاك الزمان حيث كان يجلب الحطب من الأشجار المنتهية الصلاحية في البستان، و يستخدمها بدلاً عن “الغاز أو الكاز” إذا لم يتوفر، فكان لا يعاني ما أعانيه أنا في عصرنا الحالي الصعب الذي خلفته الحروب اللعينة على مدار عشر سنوات متتاليات أنهكت البلاد والعباد بالقتل والدمار والخراب..، وكان آخرها الحصار الاقتصادي الجائر الذي لا يمتّ للإنسانية بأي صلة حتى وصلت الحال بالناس إلى ما وصلت إليه الآن.
نعم لقد مر على بلادنا في ثمانينيات القرن التاسع عشر حصار اقتصادي، لكن الناس كانوا معتادين على الحياة الطبيعية البسيطة التي لاتكاليف مادية بين المجتمع، وقد كان والدي يعمل موظفاً في إحدى المؤسسات الحكومية كما غيره من أهل القرية، إضافة إلى ذلك كان فلاحاً يزرع الخضروات و بعض الحبوب، ولديه أشجار مثمرة متعددة الأصناف، و في مواسم الحصاد يفيض من تلك المحاصيل الكثير عن حاجات البيت، حينها يقوم والدي بتوزيع ما طاب منها على أصدقائه وجيرانه وأقاربه، بعد أن يملأها في سلة من القصب صنعت بيد ماهرة أتقنت الصنعة عن حرفة حتى أصبحت بشكل هندسي جميل، ويرسلها معي أو مع أحد إخوتي، فكان هؤلاء الذين تصلهم أعطيات والدي لا يتوارون أبداً عن ملء السلة بما أفاض الله عليهم من الخيرات.
هكذا كانت تجمع بينهم المحبة والألفة والطيبة، واحترام كبير السن كان من أولويات الناس عند المجتمع حيث سماع النصح والرأي السديد منهم، هذا ما افتقدناه الآن في بلادنا العربية ضمن العصر الحالي! عصر السرعة والتطور والتكنولوجيا، لا بل عصر الديمقراطية القادمة من الغرب!
جاء صوت أم أديب مدوياً داخل البيت يخترق سمع زوجها كرصاصة أطلقها جندي “شجاع” على هدفه في المعركة تقول: كفاك من هذا الكلام الفارغ! أتريد أن تعود بنا إلى الماضي والناس تصعد إلى سطح القمر في هذا العصر؟ قم واجلب لنا من البقالة شيئاً أصنع لكم به طعاماً، ولا تنسَ المئة غرام “لحم” من عند القصاب؟ قطب أبو أديب وجهه وقال: “هوني عليك يا امرأة هوني عليك! ألم تعلمي أننا ما زلنا في الثلث الأول من الشهر، وقد صرفتُ من مرتبي الذي أتقاضاه في الوظيفة أكثر من النصف، ثمن الأغراض التي ابتعتها من المدينة! إضافة إلى ما استهلكتم من عند جارنا السمان”، وبين أخذ ورد يتبعه شيء من الصراخ مثلته أم أديب، خرج الرجل من البيت محنيَّ الرأس كغصن على شجرة أثقلته الهموم، ليرتسم الحزن على محياه، والشرود يُهيمن على أفكاره حيث أخذ يكلم نفسه…
العدد 1135 – 7-3-2023