منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وتراجع دور الدول الاستعمارية التقليدية التي أنهكتها الحرب برزت الولايات المتحدة الأميركية كأكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم ،ومنذ ذلك التاريخ بدأت الارهاصات الأولى للحرب الباردة تبرزعلى سطح العلاقات الدولية آخذة شكل الصراع على مناطق النفوذ التي ترتبط سياسياً واقتصادياً بدول مركز الصراع والتنافس وهما الولايات المتحدة الأميركية زعيمة ما أطلق عليه ادعاء العالم الحر والاتحاد السوفييتي حامل لواء الشيوعية والأممية، مع سعي أميركي محموم للسيطرة على الغرب من خلال مشروع مارشال في أوروبا وحلف الناتو الذي تحول من مظلة نووية إلى مظلة سياسية أميركية أحكمت قبضتها من خلالها عليها وصولاً الى هيمنة أميركية على المنظمات الدولية ممثلة بمجلس الأمن الذي تشكل وفق مصالح المنتصرين في الحرب العالمية الثانية إضافة إلى إحكام قبضتها على التجارة والاقتصاد العالميين من خلال صندوق النقد الدولي والصندوق الدولي للانشاء والتعمير ولاحقاً منظمة التجارة العالمية وأكثر المنظمات المنبثقة عن هيئة الأمم المتحدة .
ومع كلّ عناصر القوة المشار اليها اتبعت الولايات المتحدة سياسة الاحتواء لدول المعسكر الاشتراكي إضافة إلى منع انتشار الشيوعية واستهداف الدول التي تسير في ركبها أو المتعاونة مع الاتحاد السوفييتي السابق وكعنوان عريض رفعت أميركا شعار الخطر الأحمر بمواجهة العالم الحر ومارست أقوى سياسات الهيمنة على دول العالم الثالث ومنها الأقطار العربية ،ولاسيما البترولية منها مع استهداف واضح لمن وقف منها في خط العداء للكيان الصهيوني وبالتحديد سورية ومصر .
لقد اتبعت أميركا ومنذ عهد الرئيس هاري ترومان سياسة واضحة تجاه دول المعسكر الاشتراكي والدول التي تسير في خط الاشتراكية ،وبالأخص دول عدم الانحياز فكان استهداف قادتها الوطنيين على رأس أهداف المخابرات المركزية الأميركية التي عملت وتعمل حتى الآن كذراع سياسية تتبع وزارة الخارجية الأميركية وتساعد على تحقيق ما أُطلق عليه المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الاميركية وفي هذاالإطار اتبعت الادارات الأميركية المتعاقبة منذ ذلك التاريخ وحتى الآن الأساليب التالية في استهداف الدول والقادة الوطنيين الذين لا تنسجم وتستجيب سياساتهم وتوجهاتهم مع مصالح الولايات المتحدة :
١- الانقلابات العسكرية
٢- الضغط والحصار الاقتصادي
٣- الاغتيالات السياسية
٤- إثارة الفتن والحروب الداخلية
٥- استعمال القوة
١- الانقلابات العسكرية:
اتبعت الولايات المتحدة الأميركية عبر وكالة cia أسلوب الانقلابات العسكرية للتخلص من قادة وطنيين اتبعوا سياسيات وطنية مستقلة حفاظاً على استقلال بلدانهم وسيادتها وثرواتها الاقتصادية ويأتي في طليعة من أطيح بهم عبر انقلابات عسكرية حكومة مصدق في ايران في خمسينيات القرن الماضي الذي وضع يد ايران على ثرواتها البترولية فقامت الاستخبارات الأميركية بانقلاب على مصدق وإعادة الشاه إلى الحكم وهو الذي أسقطته الثورة الإسلامية عام ١٩٧٩ وبنفس الطريقة أيضاً قامت الاستخبارت المركزية بترتيب انقلاب عسكري في تشيلي عام ١٩٧٣ ضد الرئيس الاشتراكي المنتخب سلفادور الليندي وقتل في قصره على يد أنصار الجنرال بينوشيه ،إضافة إلى قيام الاستخبارات المركزية الأميركية بتنظيم عدة انقلابات أو محاولات انقلاب في أميركا الجنَوبية واللاتينية التي سميت جمهوريات الموز ما حدى برئيس المكسيك فارغاس القول عام ١٩٣٠،وإن مشكلة المكسيك ومشكلاتها هو نتيجة أنها قريبة في حدودها من أميركا وبعيدة في روحها عن الله.
٢- الضغوط السياسية والحصارالاقتصادي:
تعتمد الولايات المتحدة الأميركية التي يحكمها منطق الشركة والربح والخسارة أُسلوب فرض العقوبات الاقتصادية أداة سياسية بمواجهة الدول والحكومات التي لا تؤدي الدور الوظيفي في خدمة السياسة الأميركية وهي في سياستها هذه لا تضع في الاعتبار أي بعد إنساني أو آثار كارثية على الشعوب نتيجة لها والأكثر من ذلك تدفع بالكثير من الدول لاقتفاء أثرها في فرض العقوبات مستثمرة فائض قوتها العسكرية والاقتصادية والإعلامية ،ولعل أكثر الدول والشعوب التي عانت من عقوباتها هي كوبا وكوريا الديمقراطية وايران والعراق وسورية،ولاسيما بعد ما سمي قانون قيصر حيث تفرض عليها عقوبات مخالفة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وتعتقد الادارات الأميركية واهمة أن مثل هكذا عقوبات تساهم في إضعاف الأنظمة السياسية لتلك البلدان ومن ثم سقوطها وهو ما ثبت فشله لأن أغلب هذه الدول استطاعت أن تجعل من هذه العقوبات فرصة لاعتمادها على ذاتها واستثمارها الأمثل لثرواتها المادية والبشرية وتأليب الرأي العام على الإدارات الأميركية وسياساتها اللاإنسانية واللاأخلاقية ولا شرعية .
٣- الاغتيالات السياسية والتصفيات:
أتاحت وشرعنت القوانين الأميركية وحتى عهد قريب مبدأ الاغتيال السياسي لمن ترى فيه المخابرات المركزية عائقاً في وجه المصالح الأميركية ومن شكل من قادة العالم حالة شعبية ووطنية ودولية تجعل منه رمزاً على المستويين الوطني والاقليمي والدولي ،ولعل أبرز من تعرض لاغتيال أو محاولات اغتيال من قادة وطنيين (شو ان لاي )رئيس وزراء جمهورية الصين الشعبية حيث وضعت متفجرات في طائرة كانت ستقله من هونغ كونغ إلى اندونيسيا لحضور مؤتمر لدول عدم الانحياز ولكن المسؤول الصيني نجا منه لأنه غير طائرته في اللحظة الأخيرة فانفجرت الطائرة التي كان يعتزم استخدامها بعد خمس وأربعين دقيقة من إقلاعها فهوت في بحر الصين الجنوبي وقتل كلّ من كان على متنها ، وكذلك استهدف الرئيس الكوبي فيدل كاسترو عدة مرات من خلال تسميم سيجار فخم كان يقدّم له إضافة إلى أن الرئيس الجزائري هواري بومدين قد توفي نتيجة عملية تسميم تعرض لها عندما تناول وجبة طعام في طائرة كانت تقله من أوروبا ،وهو ما أثبته الأطباء السوفييت الذين أشرفوا على علاجه، أما الرئيس المصري جمال عبد الناصر المعروف بعدائه لأميركا ومصر فتشير أغلب التحليلات إلى أنه تعرّض لاشعاعات ضوئية من كاميرات تصوير أدت بالنتيجة إلى ضعف عمل القلب ،ومن ثم إصابته بالسكتة القلبية عام ١٩٧٠ ،وكان عمره اثنين وخمسين عاماً، وبيّن الأطباء السوفييت الذين كانوا يعالجونه من مرض السكر في جزيرة سخال طوبو أن مرض السكر لم يكن الأساس في وفاته ولعل أقرب الأمثله على أُسلوب استهداف القادة
هو ظروف وفاة الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز حيث أشارت التقارير إلى أنه هو ومجموعة من رؤساء أميركا اللاتينية تعرضوا لجراثيم وفيروسات تتسبب في مرض السرطان .
٤- إثارة الفتن والحروب الداخلية:
بعد الفشل الأميركي في استهداف دول العالم من خلال التدخل العسكري وكلفته الباهظة ،وما ترتب من كراهية على المستوى العالمي لهذه السياسية، بدأت مراكز الدراسات والأبحاث في الولايات المتحدة الأميركية تطرح أسئلة هامة من قبيل لماذا يكرهوننا ،فتوصل الباحثون الاستراتيجيون ورسمو الخطط لأهمية ودور القوتين الناعمة والخشنة في تحقيق الأهداف الأميركية بدل القوة الصلبة أو الحروب بالوكالة، أو ما سمي الرحلة المجانية وعلى هذا الاساس جرى التركيز على الاستثمار في جاذبية النموذج الأميركي وضرورة هندسة العالم وفق ما أطلق عليه القيم الليبرالية من حرية وحقوق الإنسان والمرأة وعلى هذا الأساس تمّ استحداث منصب وكيل وزارة في الخارجية الأميركية للعلاقات العامة بهدف الترويج لما يسمى منظومة القيم الأميركية وشرح السياسات الأميركية والتواصل عبروسائل الاتصال الحديثة مع إعلاميبن وكتاب وفنانين وناشطين شباب بهدف ايجاد أرضية اجتماعية في كلّ بلد مستهدف يتم من خلالها الترويج لهذه المفاهيم وتقديمها على الاحتياجات الضرورية لهذه الشعوب، وتشكيل رأي عام مناهض لحكومات الدول التي لا تسير وفق ما تتطلبه المصالح الأميركية والدخول عبر نقاط الضعف في أي بنية وطنية بهدف خلق فتن وصراعات ومشكلات تؤدي بالنتيجة لانهيارات اجتماعية واصطفافات ما دون وطنية، أي السعي لتدمير العقد الاجتماعي للدولة الوطنية وتشظيتها وهو ما حصل في بعض دول ما سمي- الربيع العربي- وماجرى في جورجيا واوكرانيا وقبل ذلك في يوغو سلافيا وبولندا والاتحاد السوفييتي السابق .
٥- استعمال القوة العسكرية:
لجأت الولايات المتحدة الأميركية الى استخدام القوة والعسكرية والتدخل المباشر في أكثر من مكان في إطار استهدافها للدول وقادتها ،والمثال على ذلك ما جرى في بنما والعراق وليبيا والصومال وافغانستان وفي بعض حروبها غير المباشرة استثمرت أميركا في التطرف الإسلامي وما سمي “الحركات الجهادية” عبر اتباع سياسة استنزاف الخصوم اضافة الى جعل محاربة الارهاب مقولة سياسية لتغطية عدوانها واستهدافها لبعض الدول خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وسقوط ذريعة الخطر الأحمر حيث وجدت الولايات المتحدة الاميركية نفسها في أزمة اختيار من هو العدو لتغطي مشاريع الهيمنة على دول العالم ومقدراته، ولعل الحديث عن الخطر الأخضر في إشارة للحركات المتطرفة التي هي في الأساس صناعة أميركية إشارة واضحة لذلك ما حدا ببعض المنظرين الاميركيين طرح مقولات سياسية وثقافية تهيئ المناخ لذلك وفي مقدمة هؤلاء فرانسيس فوكوياما في نهاية التاريخ وصموئيل هاتنغتون في صراع الحضارات وما روج له زعيم المحافظين الجدد برنارد لويس في حديثه عن ضرورة استحضار ذاكرة تاريخية ترى في قيام دولة عربية اسلامية قوية خطراً يتهدد أوروبا في اشارة واضحة لحصار فيينا.
بالمحصلة نصل الى حقيقة ان الولايات المتحدة الاميركية نشأت اساسا على فكرة المغامرة والحروب والمؤامرة يقودها تحالف غير مقدس بين المال والسلاح والفكر وهي كماقال عنها ستانلي كارنوف: امريكا دولة متحركة لا تطيق الوقوف مكانها وتعتقد ان الوقوف يعني الاستسلام او التراجع، ولعلنا نشهد في هذا الوقت وبفضل شجاعة ابطال جيشنا ومقاومتنا الباسلة ان اميركا لا تقف فقط بل تتراجع وتنهزم في أكثر مكان ما يعني أن القرن الواحد والعشرين الذي اعتقدوه قرنا اميركيا يكرس هيمنتها على العالم قد أصبح اضغاث احلام،لا سيما بعد الصعودالصيني غير المسبوق والحرب في اوكرانيا وبداية هزيمة المشروع الأميركي في منطقتنا العربية ولاسيما في سورية على وجه التحديد؟.