هفاف ميهوب:
“يُنقل الموتى من الدنيا، على محفّةٍ تحملها الطيور، ويلقى بهم تحت النخلة التي تلدُ سعفاً، يحمل اسم الميت الذي يلقى تحتها.. تدور المحفّة بالموتى، وفي كلّ دورةٍ تتراءى لهم مرحلة من مراحلِ أعمارهم..
يأتي الحارس أو المُوكل، فينزع عنهم الأكفان، ويُخرج القطن من أنوفهم، كي يتجرّدوا من كلّ أمتعة الدنيا، ويلبسهم رداء الآخرة.
من أجل عبور البوابة الأولى، جاء الملقيّ الذي ترك اسمه في الدنيا، ولبس صفاته منذ الأزل إلى الأبد..
إنه الإنسان بكلّ تناقضاته”..
بهذه المقدّمة، اختزلت الشاعرة “ريم البياتي” ما رأته خلف “بوابات الهلع”.. الملحمة الدرامية التي تناولت فيها، وعبر اثني عشر نشيداً، الإنسان والكون والموت..
في النشيد الأول، تفرّ اللحظات من الإنسان، منذ ولادته، وصولاً إلى شبابه وكهولته. أسماءٌ تتوالى، وموكب الموت يشيّع جنازات جميعها بلا ألقاب، ولا صوت إلا صوت الجرح يتعالى:
“أين أنا.. ياهذا أين؟!..
يلتفتُ الواقف عند الباب
المُوكل بدخول الأموات إلى الحجرات
صه، ياهذا.. لا تصرخ في مملكة البوابات”
في النشيد الثاني، الإنسان يلهث وراء الحرام، ويمتهن الإجرام، لا يدري بأن ماينتظره، لا يعير اهتماماً لمنصبه، وبأن بريد الموت “مازال يسيّر رحلته/ يفرّع أحمال محفّته/..
المُلقي هنا يتلفت حوله، يلمح حارس البوابات، فيواجهه بقوله:
“تعبت قدماي وهذا الرأس سيسقط عنّي
أدخلني لو تعرف أنّي
لم يُغلق في وجهي باب
قد كنتُ مُهاباً في الدنيا
لي خدمٌ يأتمرون بأمري وحجّاب…”..
نشيدٌ ثالث ورابع وعاشر وووو.. كونٌ بائس وفقراء، بعضهم يلوذ بالصمت، والبعض الآخر بالدهشة، أمام من لا ضمير يردعهم، ولا أخلاق تقضّ مضجعهم..
زمن الفوضى والكراهية، والحقد الذي شظّى براءة طفولةٍ، أودعت أحلامها في الكفن ذاته، الذي شيّع الإنسان وحياته.
في هذا النشيد، ينتقل الملقيّ الذي هو بطل ملحمة “البياتي”.. ينتقل وكما كلّ نشيد، بين بوابات الهلع، يرافقه “وردان”. الفتى الحيّ الذي دخل مدفن والده، ليكون قدمه، والشاهد على كيفية تشظيها، إثر تفجير آثمٍ أطاح بها.
هذا هو الزمن الذي صوّبت “البياتي” نيران مفرداتها على رداءته، وعلى نذالة إنسانه وإجرامه ومسوخيّته.
زمن الأفكار المشوّهة والمتخلّفة، والأوهام الجاهلة والظالمة.. زمنٌ لا سلام فيه ولا محبة، والسائرون فيه على أربعة.. ضاق بهم الفضاء، لا الماء ماءٌ، والسّماء:
“يفترشُ السّراب مديدها
لا نور يلثمها / ولا فجرٌ يباركُ عيدها
لا ليل يُظهر حسنها
لا شمس ترسم في المسار عديدها..”..
وحدها الأم الأولى ـ الأرض، تبقى أنشودة الحياة “الحبلى بآلافِ البذور
وتمخّضت.. تلقي أجنّتها
فكان العشب والأزهار والأشجار
من فرطِ السرور..”..
وحدها الأم الأولى ـ الأرض، من يفعل ذلك، رغم ما حلّ بها من ويلات. وحدها تضمضم أبناءها، وتضمّد جراحها، رغم آلامها ونزيف الكلمات.
إنه نضال القصيدة المتفردة في عنفوانها، والجريئة في مواجهة عدوّ أرضها وإنسانها.
القصيدة التي تقف على “بوابات الهلع” لتنشد ملاحمها الشعرية.. تقتلعُ الإنسان من جذوره، ومن ثمّ تردّه إليها، تريده أن يكون، وإن لم يكن، تقتله بمفرداتها الملحمية..
السابق