يمن سليمان عباس:
هل الترجمة كما يقولون خيانة المعنى، وبالتالي يصح المصطلح الذي تم تداوله فترة من الزمن: المترجمون خائنون؟
أسئلة كثيرة تطرح دائماً، ولاسيما بعد أن غدت الترجمة علماً قائماً بحد ذاته، والآن لها نظريتها المهمة (نظرية الترجمة) وقد صدرت فيها مئات الكتب والمقالات وتخصصت جامعات وكليات بهذا اللون من العلوم اللغوية.
ومن نافل القول: إنه لولا الترجمة لما كانت الثقافات الغنية التي تزداد ثراء بما يضخه المترجمون فيها من أفكار ورؤى جديدة ومصطلحات.
وعماد ذلك كله المترجمون.. أي أن المترجم أكثر من مبدع، وبأكثر من لغة عن هذا المبدع تتحدث وزير الثقافة الدكتورة لبانة مشوح في مجلة جسور التي تصدر عن الهيئة العامة للكتاب، وهي ترى أن العلاقة بين النَّص الأدبي والقارئ شغلت حيِّزاً كبيراً من الدراسات اللغوية والنقدية، ويكاد الباحثون أن يجمعوا على أن القارئ مبدع آخر للنَّص الأدبي.. هذا ما عبّر عنه الناقد رولان بارت في حديثه عن “النَّص المفتوح” وعن “موت المؤلف”؛ وعنى بذلك أن النَّص مفتوح على كل التأويلات الممكنة، وأن القارئ ليس مجرد مستهلك سلبي للنَّص الأدبي، بل هو شريك في إبداعه، بما يثيره النَّص في نفسه من مشاعر وأحاسيس، وما يحييه في مخيلته من صور، وما يمليه مخزونه الثقافي عليه من تأويلات.
وذهب الشاعر بول فاليري أبعد من ذلك، إذ رهن الإبداع بالتلقي حين عدَّ أن حبلاً سرياً يربط الكاتب بنصِّه الأدبي، وحالما يفرغ الكاتب من مؤلفه، “يبدأ تكوّن المعنى الحقيقي للعمل الأدبي في نفس القارئ”. وسواء اتفقنا وهذا الرأي أم رأينا فيه بعضاً من مغالاة، فهو حتماً لا يُبطن تجنيّاً على الكاتب، إذ بقدر ما يحمل النَّص الأدبي من شحنة إبداعية يشعلُ جذوةً سرعان ما تنير دروب التأويل في ذهن متلقيه.
ما يعنينا هنا هو موقع المترجم من النَّص الأدبي حصراً، ولاسيَّما الشعري، من حيث هو متلق ومرسل في آن معاً، وتلك حقيقة لا مراء فيها، أي أن ما ينطبق على القارئ العادي ينطبق على المترجم حتماً من حيث المبدأ في كونه مبدعاً آخر للنَّص الشعري، لكنّ قدرة المترجم على “الإبداع” مرهونة بما يمتلك من وعي لغوي وعمق معرفي وسعة خيال وقدرة على التأويل، متحرِّراً من قيدِ الحَرْفية وأسرِ المعجمية على اتِّساع نطاقها وغناه، معتدّاً بدلالات التراكيب والسياقات لاستنباط المعنى، متقمّصاً روح الشاعر وجسده بما يبيح له سبر أغواره والتحليق وإيّاه في عوالمه الشعرية، وصولاً إلى تأويل صوره، فإذا ما ارتقى به مستوى وعيه اللغوي ومخيلته الشعرية إلى مستوى النَّص الذي ينتجه، يحقُّ له أن يوسم بالإبداع.
من هنا نستطيع التأكيد أن اتفاق المترجمين على تأويل النصوص الشعرية الحداثية أمر أقرب إلى العبثية، الأمر الذي يُسوِّغ تصدّي أكثر من مترجم لترجمة الأعمال الشعرية نفسها. لكن ولوج باب ترجمة الشعر يُعدّ من أكثر المهام صعوبة، لا بل إنه تجربة محفوفة بالمخاطر، لا يقدر على خوض غمارها إلّا من تميّز بملكة لغوية وبنية ذهنية تنعكس “إرادة شعرية خلاقة” عبّر عنها بعضهم بأنها “انزياح ممنهج عن قانون اللغة” بمستوياتها كافة، انزياح ينتقل بالنَّص من بنية اللغة العادية المنطقية إلى بنية اللغة الشعرية.
لقد استطاعت الدكتورة مشوح أن تصل بنا إلى جوهر إبداع المترجم الذي يمثل ماء وندى اللغات وهو الفاعل في التواصل الحقيقي وقد يكون مبدعا للنص في اللغة الجديدة.