الملحق الثقافي-وفاء يونس:
تناول محمود محمد فايد آثر ألف ليلة وليلة في الفن و ذلك في دراسة نشرتها مجلة التراث الشعبي يقول: لحكايات «ألف ليلة وليلة» أصول فنية وأساليب تعبيرية وفنون تشكيلية، لطالما استلهمها الفنانون في معالجاتهم وصياغاتهم لعلاقات الواقع بالخيال، وللحالات الشعورية التي تعكسها تعبيراتهم ورسوماتهم وتشكيلاتهم المختلفة، وعلاقة تلك التعبيرات والصياغات بالمعايير الفنية النوعية التي تتفرد بها «ألف ليلة وليلة» إضافة للغتها التصويرية، وقيمها التشكيلية وخيال مبدعيها الجامح يقول د/ مصطفى الرزاز: «لعلنا نتصور حال مؤلفي الليالي على اختلافهم، وموقفهم من فنون الرسم والنحت والتصوير التي كانت محاصرة في تلك الفترة ومخفية عن الأنظار، تعاني نوعاً من الحظر خوفاً من شبهة الشرك». الأمر الذي أدى معه ذلك القمع والكبت، إلى ظهور تلك الفنون وتعبير المبدع عنها نثراً، من خلال نصوص حكاياته، مختزلاً بتقنياته كل الفنون والتشكيلات والمنحوتات والجداريات المصورة والملونة، مثل: «قصور خربة المفجر وعميرة بوادي الأردن؛ وكل مرئياته لهياكل الفراعنة والساسانيين والروم، وجيوش الفخار التي حرست القصر الذي دفن فيه القيصر «كين شي هو تغدى» منذ 3 ق.م، وهي جند على خيول وعربات بأحجام حقيقية، دفنت تحت الأرض بأمر القيصر، عددها سبعة آلاف فارس مدججين بالأسلحة البرونزية». مما ألهب الخيال التصويري لمبدعي «ألف ليلة وليلة»، وزودهم بأفكارهامة وتقنيات لازمة لتصور الأنصاب المتحركة، كالفارس المطلسم حارس المدن، الذي يصيح إذا ما اقترب عدو من أسوارها، وغيرها من السير والفنون والمرئيات المتعددة بالغة الطرافة والاستغراق في الخيال، حيث يتداخل الفيزيقي
بالميتا فيزيقي تماما؛ فوظفوا المنحوتات، كالجيش الفخاري السالف، ومدن النحاس، ومبالغات وصف الأحجام والأعداد، كالحوت أو (الجزيرة الطافية) في رحلة السندباد الأولى، وفي الرخ الذى يلقم أفراخه الأفيال، والحية البلورية التي تتوسط طبق الذهب بوجهها الآدمي. و«لم يكن إنعكاس تلك المرئيات على تصوراتهم، مجرد افتراض شارد، بل تؤيده كتابات الرحالة والجغرافيين التي امتلأت بالعديد من مرئيات وفنون البلدان التي وصفها ياقوت الحموي والقزويني وإبن بطوطة والإدريسي وغيرهم من الرحالة والحجاج والجغرافيين والمؤرخين والعلماء والتجار» (الفنان الإسلامي وخيالات ألف ليلة وليلة، مجلة فصول، العدد 2، ابريل 1994م).
إلهامات شهرزاد
في مطلع القرن الماضي كانت شهرزاد مثالاً للمرأة المتمردة على علاقات قصور الحريم ونظمها وقوانينها وضوابطها، ومثالاً للمرأة المثيرة التي تفضح وتعري بنات جنسها وتصف أدق خصوصياتهن في علاقاتهن مع الرجل، فسحرت شهرياروخلبت لبه بحكاياتها وكانت قد قرأت الكتب والتواريخ وسيرالملوك وأخبارالأمم، وقيل أنها جمعت ألف كتاب من كتب تاريخ الأمم السابقة والملوك الخالية والشعراء، ففتنت المبدعين من الأدباء والموسيقيين والرسامين وألهمتهم أعمالاً رائعة أثرت تراث الإنسانية، وفي الوقت نفسه ظلت مثالاً للجمال الشرقي والمعرفة والحكمة والذكاء، بعد أن بدت لهم شهرزاد أسطورة، فاستوحوا من شخصيتها أجمل اللوحات، وحتى الآن لم تزل منبعاً للإلهام والإبداع، خاصة أن حكاياتها الملغومة بالكثير من القيم التشكيلية والتعبيرية والرمزية، لم تفصح سوى عن اليسير منها، مما دفع الفنان – شرقا وغربا – إلى استلهامها؛ أما الدكتور الفنان / هاني جابر – يرحمه الله – فوجد فيها مجموعة من اللوحات التشكيلية المصورة، التي تشبه الأحلام التي تنتهي مع بزوغ شمس الرؤيا والحقيقة الواقعة، فكانت – في رؤيته – دعوة نوعية إلى المغامرة حيث الغموض والألوان والعوالم المثيرة الأكثر طرباً وسحراً، لامتلاكها كل دوائر الجذب الحسية، والتفاف الرياح الحارة بها، فوق رمال من ذهب وسجادات عربية، وتوقها لعوالم خاصة ملونة بصبح شرقي، والتي لم تعرف حتى اليوم حكاياتها الأضخم فى تاريخ الأدب الشعبي، حدود زمانية أو مكانية، لتعبر نصوصها القوية والمؤثرة، ببساطة السحر، كل الحضارات والثقافات والمسافات المتفاوتة للعقل البشري، بل وتتوارثها الأجيال منذ الحكاءة الموسوعية شهرزاد، وخطتها السنون على رقاق عربية، تجسيداً لحبّ الأرض وانعكاساً لحكايات الأزمنة والأمكنة العتيقة، بنكهتها الخاصة ومتعتها المختلفة وجمالياتها المعتقة. ويرى الدكتور / عمر عبد العزيز في دراسته «التعابير الفنية المتوارية» أن من يتأمل لوحات ألف ليلة وليلة سيدرك أهمية توظيف نصوصها المكتوبة بسخاء عند كبار الفنانين التشكيليين في الحركة التشكيلية العالمية والعربية المعاصرة، فليس من الغريب أن يطوروا أعمالاً عبر فقه نصوصها الثرية بأفكارها وعوالمها العربية والشرقية، وليس من الغريب أيضاً أن تتسع لها فنون التشكيل والرسم والكاريكاتير وغيرها، بل ونتبين أن القيمتين، التشكيلية والأدبية الأساسيتين والثوريتين فيها، لم يكن ليتسنى إبداعهما لولا التكوين الخاص للقدرات الواعية واللاواعية التى ميزت مبدعيها، في سبقهم ومزجهم الفريد للخيال الأدبي بالقيم التشكيلية، والذي تبلور بعدهم بقرون عديدة في نظرية وحدة الفنونً، بعد أن أشعلت الحضارة العربية السمحة – منذ أكثر من 16 قرن – خيال الأدباء والفنانين، الذي تبدو معه بغداد – مثلاً – في قصصهم، لوحات متتابعة من الفن التشكيلي الموصوف بالكلمة، الذي أوحى للمستشرقين والتشكيليين والرسامين، بتحويل الوصف المكتوب وما تخيلوه وفهموه، فيما بين السطور، إلى أعمال ومنحوتات وصور مرئية، ولعل النقد السوسيولوجي لألف ليلة يوضح لنا، من خلال الصور الأدبية، تحليلات للمجتمع العباسي فى ذروة حضارته وأبهته وجماله، تحولت معه الأدبيات إلى أعمال تشكيلية، فهناك نهر دجلة الذي يبدو في ضوء القمر كنهر من فضة، والأشجار التي تتمايل عليه، والحدائق التي وصفت بدقة لا مثيل لها في أماكن أو بيئات أخرى، وكذلك القصور التي وضحت تفاصيل تشكيلاتها بدقة، سواء من خلال حكاياتها الثرية أو من خلال الصور الموحية التي أبدعتها مخيلة الفنانين بعد الإطلاع على ترجماتها فى معظم اللغات، فكثرت أولاً الرسوم التزيينية والتوضيحية التي رافقت معظم طبعاتها لمئات الفنانين بكل تخصصاتهم. وفى محفوظات المكتبة الوطنية بباريس عدة رسوم تمثل نماذج من «ألف ليلة وليلة»، منها «الجارية» و«إمرأة من الحريم»، كما ازدهرت المدرسة الرومانسية بفروعها: الأدبية والتشكيلية والموسيقية منذ بدايات ق19، قرن الاستكشافات الجغرافية والتوسعات الاستعمارية، التي كان للشرق نصيبه منها، فقام كثير من الفنانين والأدباء الرومانسيين، برحلات إلى ذلك «الشرق العجيب» موطن السحر الأغرب الذى أنتج حكايات «ألف ليلة وليلة» بعوالمها التى أججت فضولهم وأشعلت نيران عبقريتهم، فألهمتهم فنونهم؛ من ناحية أخرى نجد لوحات عديدة لفنانين، مثل: دي لاكروا – روبنز – جيروم وغيرهم، صوروا البدو والعرب في معارك قبائل الطوارق ولوحات صيد الأسود والنمور بالصحراء، حيث عبروا عن التلاحم الدرامي بين عناصر القتال بلغة تشكيلية غربية قوامها التجسيم، وإعمال المنظور الفوتوغرافي وتأكيد الملامح التشريحية، توافقت موجة رسم المظاهر الشرقية – طبقا للدكتور الرزاز – «في اللوحات الاستشراقية الغربية في ق 19م، مع ظهور الأطماع السياسية والعسكرية الغربية في المنطقة»، فلم يكن الموضوع مجرد هوس فني أو اكتفاء بالانبهار والغرابة، بل الترويج لاستعمار الشرق والدعاية والتمهيد لمشروعيته، بتصوير وإبراز الشرق الإسلامي متدنياً، شهوانياً، كسولاً، جامداً، مخدراً، عنصرياً، شرساً، والتركيزعلى صور أسواق العبيد والجواري والحمامات التركية وحروب الاستحلال والجواري البيض». إضافة لتصويرهم أجواء المعارك وصراعات الوحوش والضواري والسحر والخوارق والطلاسم والمعجزات والكائنات الخرافية، وسير البحارة والنوتية، وتصوراتهم لشهريار وشهرزاد، والأجواء الباذخة المحيطة بهما. إضافة لاستلهامات الفنانين الغربيين لموتيفات «ألف ليلة وليلة» في العديد من فنون وتصميمات الأزياء والأثاث والأواني والعمارة والزخرفة الداخلية وتنسيق الحدائق والحلي والآلات الموسيقية والشمعدانات، واحتفائهم بأدق تفاصيل وحوارات ومواقف ومشاهد حكاياتها التى خلبت خيالهم وترجموها إلى لغة الواقعية الرومانتيكية، استلهمت العناصر نفسها في السجاجيد والزرابي والجدران التى زينت بالقيشاني المزوق والمشربيات الدقيقة والبوابات المطعمة المصفحة برقائق المعدن، وأسرفوا في إبراز مفاتن حريم السلطان ودلالهن الأنثوي ومراوح الريش وما إلى ذلك من مظاهر.
ويرى د/ محمود شاهين أن «الإستشراق في الفن التشكيلي ظاهرة لم تتوقف بعد»، وأن الفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبون لطالما ردد أن «ألف ليلة وليلة» كانت أول الطريق إلى الاستشراق، ومن ثم انتشاره، وأن أوطاننا العربية لم تزل محط اهتمام التشكيليين العالميين، وملاذاً آمناً لأرواحهم، ومعيناً لا ينضب لإلهاماتهم وإبداعاتهم، منذ ديلاكروا، وبول كلي، وكاندينسكي، وماتيس وغيرهم إلى الآن. أبدع «دي لا كروا» لوحات كثيرة تأثر فيها بحكايات «ألف ليلة وليلة» مثل : «المهرج العربى» – «معركة عربية» – «فارس عربى يلعب على جواده» – «نساء الجزائر»، والأخيرة استهوت كثيرا الفنان بابلو بيكاسو، فقدم عنها أربع عشرة دراسة تكعيبية، واعتبرها رينوار أجمل اللوحات العالمية، وشبهها جوستاف بلانش بالقصيدة، كما أثارت إعجاب كثيرين فقاموا بدراستها ونقدها وتحليلها؛ ولبيكاسو لوحته الشهيرة «الديك الشرقى»، وفيها يبدو الديك منتفشا متحفزا وهو يطلق صياحه رمزا للصحوة من حلم شهر زاد، وهي من اللوحات المبهمة في جوها العام وقيمها الجمالية في رؤية الشاعر أحمد سويلم في كتابه «استلهامات ألف ليلة وليلة في الشرق والغرب» الصادر العام 2016م. و ل «دي لاكروا» لوحات عديدة محفوظة في متحف اللوفر وغيره، أشهرها «الحرية تقود الشعب» التي رسمها عام 1830م، و«سلطان المغرب» عام 1845م.
ومن أجواء ألف ليلة وليلة استوحى أوجست رينوار (1841 – 1919م) رائد المدرسة الانطباعية، وهنري ماتيس (1869 – 1954م) أكبر أساتذة المدرسة الوحشية، ودي كامب، أجمل لوحاتهم فرسموا الجواري والجميلات، كما استوحى فان دونجن لوحته المعروفة «راقصة شرقية» وشكل إنج تيسييه من شخصية شهرزاد لوحات زيتية مشعة بالجمال والأنوثة، أما الرسام والنحات جيروم (1824م – 1904م) فأشهر مستشرقي ق19 الذين استلهموا «ألف ليلة وليلة»، خاصة في لوحاته «سوق الرقيق» – «حمام الحريم» – «إمرأة شرقية». وطبقاً للباحث إبراهيم كامل أحمد تأثر الرسام الأمريكي روبرت سوين جيفورد (1840م – 1905م) بحكاية السندباد البحري عن حادثة كسر التجار بيضة طائر الرخ الخرافي، فأبدع لوحته «بيضة الرخ» بالألوان المائية على الورق، وهي معروضة في متحف فرانس وورث للفن بمدينة روكلاند بولاية (مين)، أهدت اللوحة للمتحف السيدة دوروثي هيس عام 1959م؛ وقام الرسام (ج. فورد) بإبداع لوحته «التاجر والعفريت» عام 1898م ضمن لوحات أخرى توضح الحكايات بأسلوب الحفر، مستلهما «حكاية التاجر والعفريت»، بصفحات الليلة الأولى.
يذكر د/ عفيف بهنسي أن الفنان السويسري التجريدي بول كلي (1879م – 1940م) تمسك بأسلوب فردي تتفاعل فيه تأثيرات الفن العربي، خاصة بعد مطالعته لإبداعات جوته في «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» الذي حفل بصوره الصوفية، كما زار تونس والمغرب وكانت زيارته بمثابة الحلم المعرفي للتعرف عن كثب على الحضارة الإسلامية وللتعرف على الضوء في بلاد الشمس التي انعكست في أعماله، وعلى حدّ تعبيرالفنانة التشكيلية اللبنانية سوزان شكرون في مقالتها بمجلة العربي العدد 622 بعنوان «الفنون الحديثة ومصادرها القديمة»: «تسنى لبول كلي حضور أحد الأعراس العربية التي رأى فيها بعض صور تجسد الليالي، حيث كانت زيارته للمشرق العربي أشبه بالقصص الخرافية» والخيالية، خاصة بعد أن كشفت مذكراته عمق ارتباطه بحضارة وسحر الشرق وقصص ألف ليلة، وتسجيلها وتوثيقها فى إبداعاته، بعد أن عثر على مبتغاه؛ وكانت رحلات السندباد البحري السبعة، بعوالمها الغرائبية والسحرية معيناً لا ينضب فى إبداع المزيدً من اللوحات.
لوحات الكتب
من الطبعات النادرة المرسومة لليالي، طبعة دار المعارف بأجزائها الإثنى عشر التي رسمتها الفنانة النمساوية استيلا بونكز حيث يمثل غلاف كل جزء لوحة متميزة بأسلوب غربي مستعرب. أما طبعة دار الشعب التي أعدها أحمد رشدي صالح فرسم أغلفتها ورسومها الداخلية حسين بيكار بأسلوبه الرومانسي؛ وقام جمال قطب برسم طبعة دار الهلال؛ والفنان مصطفى حسين لطبعة دار الشروق التي أعدها الشاعر أحمد سويلم. عام 2008م شهدت العاصمة السلوفاكية برتسلافا احتفال الأوساط الثقافية بنشر الترجمة الكاملة لألف ليلة وليلة في طبعة مذهبة فاخرة بحضور وزير الثقافة ولفيف من أبرز السياسيين والمثقفين والإعلاميين ومترجم الكتاب البروفيسور يان ياوليني أستاذ الأدب العربي بكلية الفلسفة بجامعة كومنيوس، نشرت الترجمة في سبع مجلدات مذهبة استخدم فيها لأول مرة، نوع خاص من الحرير المزخرف بأشكال شرقية مصنوعة في ألمانيا، يحتوي كل مجلد على العديد من اللوحات القيمة قام برسمها سبعة من أشهر الرسامين بعد أن قرأ كل منهم مجلداً كاملاً، فجاءت الرسومات معبرة عن تفاعلاتهم الفنية مع النص. فى أواخر عام 2014م صدر كتاب يضم 50 لوحة زيتية من مجمل 100 لوحة أبدعها الفنان الإسباني الشهير سلفادور دالي منذ نصف قرن، كان قد رسمها لشخصيات وأحداث ألف ليلة وليلة لمعالجة موضوعات كالجنسانية والحسية والأيروتيكية، وكل الهواجس الدالية، وربما لهذا لم تنشر في ستينيات القرن الماضي، فالمحتوي الجنسى كان جريئاً في إيطاليا تلك الفترة، أما اللوحات الخمسين الباقية فبيعت متفرقة.
العدد 36 – أدب شعبي
أسهمت ألف ليلة وليلة باثراء الأداب والفنون العالمية بكل خصب ومازالت وستبقى
العدد 1185 –16-4-2024