أثناء الحرب الأميركية على فيتنام الشمالية ستينيات القرن الماضي وبعد فشل الأميركيين في كسر إرادة الشعب الفيتنامي، بدأت الولايات المتحدة محاولاتها لوقف إطلاق النار تمهيداً للانسحاب في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، ولم يقبل الرئيس الفيتنامي الشمالي هو شي منه وقف إطلاق النار وقال: نتحدث أثناء القتال ونتقاتل أثناء الحديث، لدينا عبارة واحدة انسحبوا من أرضنا ومستعدين لنستقبلكم ونشرب معكم الشاي بعد العصر في هانوي.
لقد كانت الحرب الفيتنامية من أكثر الحروب زمناً، وخسائر بشرية ومادية حيث قتل فيها 3ملايين وجرح أربع ملايين من الفيتناميين الشماليين، وألقي من القنابل على أراضي فيتنام ما يعادل سبعة ونص مليون طن، ومع كل هذه الوحشية كان الثبات والعناد التفاوضي هو الحل الوحيد مع المستعمر لجهة طرده علماً أنه قتل من الأميركيين حوالي خمسين ألفا فقط وهو عدد قليل بالقياس مع خسائر الجانب الفيتنامي، حيث يشكل عدد الجرحى والقتلى حوالي 14 بالمئة من سكان البلاد، فالخسائر البشرية لم تكن معياراً للربح والخسارة ولم تكن مبرراً للاستسلام .
وكما أشرنا قُتل 13بالمئة من سكان فيتنام و15 بالمئة جرحى استمرت الحرب من 1963 حتى 1972 مع الأميركان، ثم انتهت 1975 مع فيتنام الجنوبية بسقوط سايغون ودخول قوات فيتنام الشمالية وقوات الفيتكونغ العاصمة سايغون وهروب الرئيس الفيتنامي الجنوبي نغوين فان ثيو مع بعض أعضاء حكومته العميلة على متن طوافة أميركية نقلتهم من على سطح السفارة الأميركية في منظر مخز يذكرنا به منظر العملاء الأفغان وهم يتعلقون بطائرة شحن أميركية وهي تغادر كابول بعد الانسحاب المذل من أفغانستان، والحكمة في هذا المثال الفيتنامي هو ما كان يجري على لسان الرئيس الفيتنامي الشمالي الذي كان يقول:عندما تحارب لا تعد عدد القتلى وانظر إلى النتائج ولعل إسقاط ذلك المثال الفيتنامي يقودنا إلى ما يجري في غزة من مجازر ودمار وقتل وإرهاب، فكل ذلك على الرغم من فداحته لا يعكس معادلة نجاح للعدو الصهيوني لأن المعيار ليس عدد القتلى والجرحى والدمار، وإنما التمسك بالمقاومة والأرض وإرادة الانتصار والقدرة على التحمل على قاعدة أنه إن لم تستطع وقف العدوان فاجعله مكلفاً للعدو، وهذا هو حال المقاومة الفلسطينية المتأسية من وجهة نظرنا بالنموذج الفيتنامي، فاوض وقاتل وقاتل وفاوض حتى يصل العدو إلى حالة العجز، وبالتالي القبول بشروط المقاومة وأولها الانسحاب من غزة ووقف العدوان وإعادة الاعمار والتمسك بمحورالمقاومة بوصفه داعماً لها، وعلى سبيل المثال الزعيم الفيتنامي هوشي منه لم يكن شيوعياً وكان يقول أنا فيتنامي وليس شيوعيا ولكنه تعامل مع الشيوعيين من أجل السلاح والدعم فاستقر في الشعب الفيتنامي حضارته وثقافته وما اعتقده من مبادئ دينية وأخلاقية سواء بوذية أو كونفوشيوسية، فسخر الثقافة الوطنية لخدمة المشروع النضالي كما فعل بعده نيلسون ما نديلا وكان يقول أنا أنتمي لحزب الفيتناميين.
مثال نضالي آخر هو الجزائر، ففي حرب التحرير التي انطلقت عام 1954 واستمرت حتى 1962 و قتل فيها أكثر من مليون، في حين قتل تسعة ملايين جزائري منذ الاحتلال الفرنسي سنة 1830 حتى خروجه عام 1962، وقد مارس المستعمر الفرنسي الإجرام أكثر بكثير مما مارسه الصهيوني في غزة، حيث كان الفرنسيون يقتلون الناس كقبائل كاملة ويقومون بحرق القرى والمزارع، وكان الناس يموتون من الجوع، وهذا باعتراف الفرنسيين أنفسهم، وهجر الفرنسيون كل من هو أبيض للجزائر من الأوربيين وشرعوا ذلك قانونياً ومنعت اللغة العربية من التدريس ودمرت المساجد والمدارس وشرع ذلك قانونياً أي فرنسة الجزائر لغةً وديناً فأخذوا الأطفال للكنائس والمدارس الفرنسية بهدف فرنستهم وغسل دماغهم، ومع كل تلك الأساليب الخسيسة والإجرامية واللا إنسانية استمرت المقاومة الوطنية الجزائرية بزخمها وعنفوانها ما أدى إلى تغيير كل المعادلات داخل فرنسا البلد المستعمر وعلى الصعيد العالمي، فالحقيقة الراسخة تكمن في أنه عندما تنجح المقاومة تتغير مواقف الدول بما يتناسب وحجم الصمود والتضحيات، فعند هجوم السابع من أكتوبر لم تكن نسبة كبيرة من الدول مؤيدة للمقاومة، كما هو حاصل الآن والسبب هو نجاح المقاومة وصمودها، فموازين القوى في الميدان هي من يجعل العالم يحترمك ويقف معك أو لا، مع التأكيد على وجود تعاطف أخلاقي ولكنه ليس بالموقف المؤثر سياسياً.