أسماء الفيومي.. وعالمها الفني

الملحق الثقافي- نداء الدروبي:
تأخذك أعمال الفنانة التشكيلية أسماء الفيومي إلى التعابير العفوية والبراءة ودفء العلاقات الإنسانية في أسلوب تجريدي تعبيري مملوء بالتوازنات بين الخطوط والبقع اللونيَّة والتأثيرات المختلفة على سطح اللوحة من الكولاج والرسم العادي والدسامة اللونية التي تزيدها غنى وقوَّةً، وتضعنا أمام تناغمات موسيقية لونيَّة تلقائيَّة وعفويَّة مُعبَّأة بالدفق العاطفي والكثافة في المشاعر والأحاسيس، بجانب اهتمامها بالناحية الجمالية ودراسة الهارموني العام للوحة والولوج في التفاصيل. وقد واكبت أعمال الفنانة أسماء ما يحدث حولها من أحداث. وغالباً ما رسمت هواجسها وعواطفها روح الأشياء، ومدينة دمشق الرائعة، والحالات الإنسانية، والأمهات، والأطفال الفرحين وحركاتهم وارتعاشات أصابعهم وارتباكهم ووجوههم البريئة الوادعة، والنساء المتفانيات، والطيور، والأسماك، والحيوانات الأليفة، والكائنات الأسطورية، كما صبَّت اهتمامها بالرموز والنساء الأسطوريات بجناحين وقرنين مع سيف مصبوغ بالدم يشبه الوردة وعناق الحبيبين اللذين تلفُّهما بحنان، والأسماك والطيور والحصان وأغصان النباتات وإناث مُسربلات بثياب النوم مع تآلف متناغم جداً بجانب العنزات والحمائم، وملامح المدينة خلفهم في مشهد رائع، كما رسمت عينين واسعتين وفماً دقيقاً صغيراً وأطراف متلاشية استبدلتها الفنانة بأسماك لإحدى شخصياتها الرهيفة.
وإذا تتبَّعنا أعمالها نرى أيضاً طفلة ترتدي ثياباً وتحمل في يدها ثلاث وردات بيضاء اللون على خلفية حمراء، وأطفال بريئين مع حيواناتهم الأليفة، كما نرى آخرين يتأمَّلون الأسماك والبطَّ على حافة النهر.. في حين تحطُّ على أكتافهم الحمامات. أما الحصان فيقف على قائمتيه الخلفيتين قرب نافورة مياه وبيديه يحمل سيفاً وترساً.. هذا هو عالم الفنانة النابض بالمحبة والمشاعر الداخلية تجاه الموضوع والمرأة بشكل خاص، حيث تنقل لنا دفء الأمومة وحنانها الدفَّاق، وبجانب هذا ترمز لها بالأرض على اتساعها كونها تحمل في داخلها الهموم الدفينة لذلك هي حزينة ومتألِّمة.. مثلها مثل الأرض المرتوية بدماء الشهداء الميامين المُضحِّين بأرواحهم كي تحيا سورية وطننا الأم، وبجانب كل هذا مازالت المرأة تولد كل يوم الأجيال من الأبطال.. وتسعد برؤياهم كيف يولدون.. ترسم أيديهم المتحرِّكة بطرق مختلفة، وقرب الأيدي الصغيرة البريئة نشاهد أيدي بأصابع كبيرة جداً ترعى وتحمي الطفل الصغير، مُتمثِّلةً بالأرض حيث تشاهد الأم من خلالهم سعادتها الداخلية، فالأيدي لدى الفيومي لها كثير من المعاني وتقول ما يُصرِّح به قلبها وعقلها في أغلب الأحيان.
إنَّ لمسات ريشة الفيومي نابضة بالحياة والفرح والألم الملوَّن بالأمل تتبع ملامح الأشخاص وتختزلهم بطرق تعبيرية عامرة بالمشاعر حيث تضيف من خلال الخطوط الرفيعة أهم النقاط البارزة في العمل، مستخدمةً في معظم أعمالها اللون الترابي والأبيض وألوان ثمرة الرمان ما يضيف للوحاتها جاذبية وحناناً ودفقاً وشلالاً من الوجدانيات، كونها من الفنانات العاشقات للأرض السورية.
قالت الفيومي: -(الفن هو انعكاس لكل ما يجري حولنا، وهو حياتنا الثانية الباطنية التي لا يراها إلا مبدعوها).
وبيَّنت بجانب ذلك أنَّ لوحاتها واكبت الحياة وما يحدث حولها من حروب وأحداث سياسية، إذ رسمت غزة وقانا والنزوح الداخلي لفلسطين والأحداث في العراق ولبنان وسورية التي اعتبرتها جرح القلب، ملتزمةً في كلِّ ذلك بقضايا الأمة العربية كلها، والجروح النازفة التي آلمتها كفنانة، معتبرةً اللون الأبيض النقي بدلالاته ومعانيه السامية الأساس من بين كلّ الألوان، وقد رسمت سنابل القمح وأغصان الزيتون اليانعة الخارجة من المرأة عندما تكون حزينة. وكم أحبَّت استعمال الدسامة اللونية في مناطق معيَّنة من العمل الفني لخدمة تقنية الألوان ولإعطاء اتزان وجمالية للنسيج التشكيلي العام، واستعملت خامة الورق عندما رسمت بالزيتي على القماش، لتخلق علاقة حميمة بين التراث والمعاصرة، فأحبَّت الميثولوجيا والصوفيَّة، ورأت أنَّ القراءات المستمرَّة دائماً تمدُّ الفنان بالغذاء الروحي وبأفكار قيِّمة وبقلب جديد.
إنَّ اطلاع الفنانة على التجارب التشكيلية في العالم ومعاصرتها لروَّاد المسيرة السورية وصولاً لتجارب المشتغلين فيها اليوم ومعاصرتها لأحداث عصر بكامله تقريباً.. كل ذلك كان يشي بأعمال أقرب إلى الملحميَّة، وبحمولات مختلفة تفعم بها لوحتها أو تنوء بها.. غير أن العكس هو ما تجلَّى في عمل أسماء الفيومي إذ توزَّعت كل تلك المعايشات بالنتاج الغزير الإبداعي. وربما كان الأبرز في أعمالها الاختزال والتحوير وهذه التقنية استوحتها الفنانة من مختلف المدارس الفنية منذ بداياتها التي كانت نتاجاً لجدال وسجالات التجريب منذ دراستها الجامعية أو ما عُرف بظاهرة الفنان الإيطالي «غيدو لاريجينا» الذي تمَّ استعارته للتدريس في كلية الفنون الجميلة المُحدثة للتو، والذي كان منحازاً بشكلٍ كليٍّ إلى التجريب، وقد تأثَّرت به الفنانة أسماء، كما تأثَّرت أيضاً إلى حدٍّ بعيد بشيخ الواقعية السورية الفنان ناظم الجعفري.. ولن ينتهي الأمر بالتنوّع بالتقنيات والأساليب ولا بشواغل اللوحة المختلفة، فقد استطاعت الفنانة الفيومي من خلال ما سبق أن تُقدِّم حقولاً من الألوان جعلت لها بصمةً فارقة في المشهد التشكيلي السوري، مؤكِّدةً أنَّ الحالة الإنسانية المُشتغلة عليها تكاد تكون شاملة، وهي غالباً ما تذهب صوب الحزن النبيل والشفيف، البادي في العيون.. وأحياناً نشاهدها ترسم كالأطفال بعفويتهم وإبداعهم، بالإضافة إلى حالة التجلِّي الأنثوي في معظم أعمالها.. ويبرز الأطفال في الحرب كضحيَّة، سواء بإزهاق أرواحهم أم بجعلهم يعيشون المآسي، وفقدان معيلهم وضياع مستقبلهم. وفي طليعة الخاسرات أيضاً النساء، وهنا تبرز مشاعر وتخيُّلات الفنانة وعفويتها اللونية المُعبِّرة عنها بألوان عاطفية كالأحمر وتدرجاته، وخطوط مشغولة بأسلوب تعبيري خاص بأسماء الفيومي.
قالت الفنانة: (تزدحم لوحاتي بوجوه نساء، وأطفال تربطهم علاقة حميمة مع الأرض، مستوحاة من الأساطير السورية القديمة التي تعتبر وجه المرأة بمنزلة أرض الوطن، فرسمتُ المرأة ضمن المدينة، كما صوَّرتُها داخل البيوت، وهي تحتضن الطفل لأن المرأة والطفل هما أسطورة الخلق، فالفن ليس فوضى؛ بل خلق خالص، والفنان الذي يرسم ما بداخله لا يمكن أن تكون أعماله تكراراً لأعمال غيره لأنَّ لكلَّ فنان داخله الخاص، ومن هنا تعتبر الألوان والمواد وطريقة استعمالها خرقاً لأساليب مكرَّرة وعنصراً مساعداً على التجديد).
والحقيقة أنَّ الانعطافات الحادثة في تجربة أسماء الفيومي كانت الباعث لها في الغالب هي الحرب، وثمة أصداء لها دائمة تظهر في أعمال الفنانة ابتداءً من حرب ١٩٤٨ واحتلال فلسطين، مروراً بعدوان ١٩٦٧، وصولاً لما يحدث اليوم من حرب على سورية. كما يُمكن تفسير تلك الدراما في لوحة الفيومي من عملها في التلفزيون السوري سواء في أعمال الديكور أو في شارات وتترات عدد كبير من المسلسلات السورية، وكانت ذروة شغلها عندما تزوَّجت من المخرج السوري غسان جبري عام١٩٧٢م، وشكَّلا معاً ثنائياً فنياً، وهو المعروف بأعماله التاريخية، وقد عملت ثلاث لوحات طولانيَّة حروفيَّة دوَّنت فيهم أسماء الكثير من الفنانين والفنيين، ومن كان له دورٌ رائدٌ في الدراما السورية؛ ولكنها كانت تخاف أن يأخذها العمل في التلفزيون عن حبِّها للرسم، لذا كانت تجلس كلَّ مساء وراء طاولتها وأحبارها وألوانها لتعمل لوحة قبل النوم، فتحيَّةً لهذه الفنانة الرائدة التاركة بصمة لن تُمحى في تاريخ الفن السوري.
                           

العدد 1194 – 25 -6-2024     

آخر الأخبار
حوار جامع ومتعدد أرباحه 400%.. الفطر المحاري زراعة بسيطة تؤسس لمشروع بتكاليف منخفضة المحاصيل المروية في القنيطرة تأثرت بسبب نقص المياه الجوفية الخبير محمد لـ"الثورة": قياس أثر القانون على المواطن أولاً قوات الآندوف تقدم خمس محولات كهربائية لآبار القنيطرة إحصاء أضرار المزروعات بطرطوس.. وبرنامج وصل الكهرباء للزراعات المحمية تنسيق بين "الزراعة والكهرباء" بطرطوس لوقاية الزراعة المحمية من الصقيع ٥٥ ألف مريض في مستشفى اللاذقية الدوريات الأوروبية الإنتر وبرشلونة في الصدارة.. وويستهام يقدم هدية لليفر روبليف يُحلّق في الدوحة .. وأندرييفا بطلة دبي مركز متأخر لمضربنا في التصفيات الآسيوية هند ظاظا بطلة مهرجان النصر لكرة الطاولة القطيفة بطل ودية النصر للكرة الطائرة مقترحات لأهالي درعا لمؤتمر الحوار الوطني السوري "أنتم معنا".. جدارية بدرعا للمغيبين قسراً في معتقلات النظام البائد جيني اسبر بين "السبع" و"ليالي روكسي" هل نشهد ثنائية جديدة بين سلوت (ليفربول) وغوارديولا (مان سيتي)؟ مواجهة مرتقبة اليوم بين صلاح ومرموش تعادل إيجابي بين الأهلي والزمالك دراما البطولات (التجميلية)