الملحق الثقافي- نادين معين أحمد:
الروايةُ تُعتبرُ من الأجناسِ الأدبية الأكثرِ شهرةً وانتشاراً في عالم الأدب والإبداع حول العالم؛ فهي تعطي المجالَ للكاتب كي يُسهبَ في الحديث عن حالةٍ أو حدثٍ ما وكونُ فنّ الروايةِ بقواعدِه يمتلكُ مرونةً في استيعاب عدَّة أحداثٍ بشخوصٍ يحدّدها المبدعُ بشكلٍ يخدمُ القصة التي يرويها والعوالمَ التي يجولُ فيها، فهو-أي فن الرواية- يعطي صاحبَه المساحةَ للبوح والتعبير والوصف من دون تقيُّدٍ بحقبةٍ زمنيّة ومساحة مكانية، وهنا تماماً تكمنُ قدرةُ الروائي في تكييف الزمان والمكان بشكلٍ يُبعد المللَ عن القارئ وبتكثيف مقصودٍ للأحداث بغايةِ الوصول إلى العقدة والهدفُ الأساسُ هو شدُّ القارئ إلى مخبوءٍ ما.
لعلَّ المشهدَ الروائي السوري من أكثرِ المشاهد تأثّراً بالبيئة المكانية والزمانية المحيطة بما تحمله من قيمٍ ومفاهيمَ نفسيةٍ وسلوكية ومجتمعية متقاطعةً مع الظروف التي تكوّن تلك المفاهيم والقيم.
انطلاقاً من روايات المبدع الأديب حنّا مينا الذي أشبعَ القارئَ من رائحة البحر والساحل الدافئ معبّراً عن صراعات الحقبة الزمنية التي كان يكتب أثناءها أو بعدها فقد جعل الواقع بوصلتَه في رصدِ والتقاطِ الصورالمريرة والمعاناة التي كان يعانيها الإنسانُ السوري في زمن الإقطاع وغيره.
ولا يُخفى على أحدٍ من المهتمين بعالم الكتابة على تعدّد أنواعها أن الأديبَ ابن بيئته بما يحمل من أفكارٍ وشذراتٍ ومن حقِّه أن يستشرفَ القادمَ الذي يرجوه من خلال منتوجه الفكري.
ونلحظُ تجربةَ الأديب الروائي حيدر حيدر الذي خرجَ عن نمطية الرواية التقليدية ولكنّه ظلّ متأثراً بالبيئة الريفية الساحليّة خارجاً عن الوصف المباشرغائصاً في عوالم النفس موجّهاً شخوصه في رحلات يسوق من خلالَها أفكاره ورؤاه لكلّ ما يجول حوله في العالم الصغير والكبير.
ومن الروائيين السوريين المتأثرين بالحالات الإنسانية التابعة للبيئة الحية المحيطة بهم الروائي ياسين محمد الذي يُعتبر من الروائيين الذين لم يحظَوا بالاهتمام الذي يستحقونه، ياسين محمد الإنسان الذي تأثر بحالة الفقر في محيطه فكتب عنها كذلك تحدّث عن القضايا السياسية والانتصارات والخيبات التي مرّ بها الوطن العربي عموماً وسورية خصوصاً..متشبّعاً بعشقِ الأرضِ متمسّكاً بها ،لاسيما أنّه كان من أبطال حرب تشرين التحريرية.
هنالك الكثيرُ من الروايات السورية التي عبّرَ أصحابُها عن محيطِهم السياسي و الثقافي و الاجتماعي والإنساني و حتى الديني وهذا أمرٌ طبيعيٌّ جداً بل هو حالة أدبية ضرورية لتأريخ مرحلة زمنية بكلّ ماتملكه من أحداث وأفكار ؛ فالأديب أيضاً يُعدُّ مؤرِّخاً صادقاً من خلال عنصر الزمن الذي يقدّم روايته من خلاله.
لكن لو قارنّا المشهد الروائي السوري بمشاهد روائية عربية سنلاحظُ أنّ أحلام مستغانمي وأثيرعبدالله النشمي ومحمد صادق ويوسف السباعي لم تأسرُهم البيئة المحيطة أبداً بل تعالوا عليها فمنهم من تناول الجانب العاطفي للإنسان فعبّروا بكلماتٍ وجملٍ إبداعية ترقى لأن تكون أمثالاً عامّة يرَدّدُها المراهقون أو العاشقون وحتى مفكّروهذا العصرومنهم من تناول الجانب النفسي و الفلسفي للحالة العاطفية كيف تتشكل داخل النفس الإنسانية ،ومنهم من انطلق من بيئته بشكلٍ غير مباشر مستخدماً خيالَه العلمي ليعبّرَ عن عيوب مجتمعِه بقصدِ النقدِ والإصلاح ولعلّ هذا أهم أسباب الكتابة الإبداعية؛ إذ كلُّ كاتبٍ هو ناقدٌ ولكن ليس كلُّ ناقدٍ كاتباً.. وهذا مانراه في أغلب الروايات السورية فالروائي أو حتى الكاتب هو ناقدٌ بالدّرجة الأولى.
وبمقارنة المشهد العربي مع المشهد الروائي العالمي تتغيّر الرؤيا فالكاتب الأجنبي هدفُه إمتاع القارئ لا نقدُه ولا إصلاحُه، فبراعةُ الكاتب الغربي تكمنُ في كونِه يستطيعُ أن يُنشئ روايةً ضخمة من فكرة لا تتعدّى الجملة يكتشفُها القارئ في نهاية الرواية.
أضف على ذلك أن الروايات الغربية تمتاز بتعدد الشخوص لدرجة قد يعيد القارئ صفحتين أو ثلاث أو يرجع إلى صفحة سابقة بأربعين صفحة كي يمسك بموقع أو صفات شخصية من الشخوص والسببُ يعودُ إلى كثرةٍ الشخوص.
لو استشرفْنا مستقبلاً للرواية السورية تعيد القارئ إليها ربّما -ومن منظور شخصي بحت- علينا التخلّي عن بيئتنا قليلاً والبحث عن عوالم فكرية أخرى نسقط فيها كلّ مايدور في عالمنا من دون نمطية ولا تكرار.
لعلّ الرواية السورية لم تحصل على المجد الذي تستحقه بسبب طبيعة القارئ الملول وبسبب طبيعة الظروف التي ينطلقُ منها المبدعون فإقليم بلاد الشام تعاقبت عليه ظروفٌ وصراعاتٌ سياسية عِبْر عقود مابين زمن الإقطاع ثم الانتداب والإمبريالية إلى أن جاء الخريفُ العربي بثوراته المزعومة،كان خلالَها الكاتبُ هو المتأثّر الأول والمؤرخ والناقد لما يرى.
لابدّ أنّ ظروفَ الكاتب الأوروبي تختلفُ عن ظروف الكاتب العربي عموماً والسوري خصوصاً لهذا فالأديب بمايحمل من منتوجات فكرية هو ابن بيئته العامّة والتي بدورِها تطغى على بيئته الفكرية الخاصة في خلق الإبداع.
العدد 1200– 6-8-2024