الملحق الثقافي-محيي الدين محمد:
قد لا تنتصر كل الكلمات التي قيلت في النقد الشعري ولكن بعضها منتصرٌ دون ريب، ومنها تلك الكلمات التي تخرج منها لغة الشعر من الأعماق وكأنها هرم كبير يشير إلى روعة اللغة في الزمن الذي ولدت فيه وهي التي تمتلك الذكاء النحوي والصرفي وفهم المعادلة بين الخيال والصّورة في الشريط الشعري المعلّق على الروح ويتحدى الأبعاد ويهزأ بالتّخوم، بهذا المعنى سأقرأ النصوص الشعرية في بعض المجموعات الشعرية الست من أعمال الشاعر توفيق أحمد التي لاحق فيها السؤال المعرفي الذي طرحته عبر اشتقاقاتها اللفظية في مجال إبداعي مثير، ثم مال إلى الاستيقاظ المبكر لمشاركة الأشياء التي لا تتجزّأ في الوعي العميق عبر ذلك التفاعل الشديد في علاقته مع الناس في الأماكن الريفية والمدنية بقواعد أخلاقية دون الاختلاف على الزمان والمكان، وفي عبور الشاعر الوجداني الذي تتناسل فيه اللغة خلف الأفق تذكيراً بالمنسيّات بحثاً عن الطاقة التركيبية المعلّقة على النبوءة والخيال، وتحديد القيمة لأشيائه بأسلوب اشتقاقي انتصرت فيه الإيحاءات التي تجعل من الصورة دلالات تحملها الرؤيا في تحوّل شعري عماده التخلّي عن الأنا الفردية ليكون النتاج قادراً على إحداث التغيير في البيئة التي يعاشر فيها الشعراء تربتها وصولاً إلى السّلوك المقاوم لليأس وقد اتحدت الأنا بالجسد الجمعي في وجدان تعدّدت فيه حالات امتلاك المثل العليا بثوبها المعاصر، وفي موقفه البالغ للمنجز النصي بعيداً عن المماحكات الخاسرة نقرأ هذا النص المعنون «بقدمَي آدم» في الهبوط فوق جبل قاسيون في دمشق وألقى النص بمدينة «ميونخ» في ألمانيا بالعام /2005/ م وهو في تجاذب السباق نحو المجد بأداء شعري يثير العواطف حيث قال: /أتمنّى أن تعرف كلّ نساء العالم/ أن أجمل عطرٍ/ هو الذي ينطلق من الياسمين/ الذي يملأ حواكير دمشق/ وأتمنّى أن يعرف كل الآباء/ أن قدمَي آدم لا تزالان محفورتين على صخرةٍ فوق جبل قاسيون الذي يحتضن دمشق بذراعيه/، إنها ثقافة الشاعر توفيق التي تتهاوى فيها الحدود البعيدة لتظل دمشق بيت الياسمين والحرية التي تحمي الذهن العربي ثقافياً وفي التوليفات المعمارية المهيّجة للانفعال في النصوص والتي تحظى بامتلاك الشاعر لغة التطلّع لصالح الأنثى عبر الحفر اللغوي في طبقات لاكتشاف النمط والحفاظ على نسقه الخاص كما في هذا المقطع بكشوفاته الجمالية التي لازمت كل النصوص في المجموعة حيث يقول الشاعر:
كيف عيناك ِترفضان انعتاقي
إنه العشـــق فتنـــةُ الخلَّاق
زرقةٌ تسبح السماوات فيها
وانطلاقٌ للضّوء تلو انطلاق
عالمٌ بعضُه الوصول إلى الّتيه
ودنيـــا مجهولةُ الأعمـــاق ِ
لكأنّ الشاعر هنا طلب من أنثاه أن تحمي لون الزّرقة الحاضن للحلم حتى في الأنفاق ليتخلّص المجتمع من الغربة الرّوحية في عالمه المترامي، وفي نزهة الذاكرة تأتي النّصوص التي استولدتها الأنسجة الشعرية الخصبة في المجموعات السّت قادرة على التجلي بارتقائها إلى مستوى الصورة الفنية التي توازي حريق الشاعر الدَّاخلي في معترك الأحزان المغلّفة بالأساطير ليبوح بأسرارها كي تُهزَم الخيبات وتُهرَم الحاجات الملاحقة للناس في مجتمعه عبر هذا النص حيث نتعرف على مشاعر نقيّة في مستوى الابداع الرفيع: «تطويكَ الغابةُ في وحشتها /يركضُ عَكْسَ الريح سفينُكَ يا «رمدان»/ جنوحُكَ يُمْسِكُ ثوبَ جُنوحِكْ/ تَدْخُلُكَ الريح وتدخُلُها/ لا تُقْنِعْ ريحَكَ أنك داخلَها/ أنت غريبٌ في بيتٍ ليس له بيتٌ/ علّك في الستين كبرتَ قليلاً/ ما زال رصيفُكَ يبحثُ عن خطواتٍ لا يعرف آخرها أولها/.
إنه الصراع الذي يلاحق سفن البحر عبر شياطين الحياة الذين امتهنوا في سلوكهم المعطّل للتّصالح الودود وكلّ أسباب الأمن النفسي وصولاً إلى ذلك الواقع المأزوم أخلاقياً، وفكرياً، وإنسانياً، على كل الأصعدة وفي لغة النصوص مذاقات مريحة في التوليد المجدّد وقد توغّل فيها الشاعر مواجهاً حالات كثيرة ضد أعداء الحرية ممتهناً التكنيك الروحي الواعي لتصعد المناجاة ويعلو معها وهجُ الشعر ليؤسس لثقافة جماعيّة تقوم في جوهرها على الوعي في مواقف تثري اللون والحركة، إزاء الاغتراب النفسي في فلواته عبر السراب البعيد عن الواقع، يقول في النص بعنوان «حرّيّة»: /طويتُ على سفري وجهها/ خِفْتُ بُعْدَ المسافات/ أمزجةَ الريح والوقتِ في فلوات اغترابي وقلتُ/ أتبدو على غيبها مثلما في الحضور/ سراباً وخارج وعي الحقيقة؟/ وداخل عمق اتّساع اليباب/. وبهذا التواصل الشعري ثمّة تحدّيات لغويّة في خطابه الفكري المتنوع وقناع التجربة، ومازالت النصوص تحرّك المشاعر بالطاقة الضوئيّة للحرف العربي الذي هو النبرة الصوتية في اتساعه داخل التشكيل اللغوي الشعري الذي دفع بالفراهيدي لاكتشاف موسيقاه.
وثمّة تعريفات كثيرة للشعر كما يقول النّقّاد: فهو اللغة والصورة والإيقاع المصحوب بالفكرة وهذا هو حال النصوص التي تقف على شفافية مكوناتها في المجموعات كما في هذا المقطع من نص طويل بعنوان: «لها شرشف من حبق»: /لم أعد أتذكّر/ حين التقيتُ صفاءَ الحنين بِطَلَّتها/ أنني معها: /في مساءِ الحكايات: /أو في الغَسَقْ/ زاغَ عن خَطْوِهِ الوقْتُ/ وارْتَبَكَتْ خُطواتُ المسافة فِيَّ/ فارتديتُ البياض/..
ويبدو من خلال اكتشاف الظاهرة اللغوية في هذا النص الطويل أنه مرتبط بالمجازات البلاغيّة في الصورة الفنية المعاصرة.. ومن خلال كل المسارات المتفرّعة عنها حتى أن منظومة التّخييل قد دلّلت على قدرة اللغة الحاملة للرؤى كلغة شموليّة تحتاج إلى التحليل للوقوف على أبعاد النّص.
منطقة الرؤيا – حلم أوسع..
في الفضاء اللّغوي للطّاقة التي تتشكل منها الكلمة العربية في تدرِّجها وانخفاضها وهي النّبرة الصّوتية في اتّساعها داخل التشكيل اللغوي الشعري وكانت الحروف هي الكينونة المرجعيّة في اللغة العربية التي لا مقابل لها في اللغات الأخرى، من هنا كانت الحاجات إلى توزيع هذه الثروة وتوسيعها عبر التّرجمة إلى اللغات الأخرى بقصد التفاعل معها والانتشار عالميّاً ونظراً لأن المجموعات الشعرية الست من خلال قراءتي لها في تفاعلها المحلّي والبعيد ضد العولمات الثقافية التي تُشرف عليها الدول المعادية للعرب ونتمنى على المعنيين بطباعة الكتاب الشعري حماية الخصوصية للعربي المثقف لمواجهة تنظيرات العولمة باتجاهاتها العاتمة، وفي هذا النص ثَمَّةَ ارتقاءٌ في اللحظة التي يسعى فيها الشعراء إلى الاستقرار للحفاظ على اليد الأولى وهي إحدى الإنجازات الحديثة ثقافياً، وامتلكها الشاعر توفيق في اختباره الانتقائي للمضمون الذي يحتاج إليه العمق الشعري، وفي عنوان «هو صهوة المدى» حيث يقول: /قل لي برَبَّك/ يا طليقَ الفِكْر والقوة/ قل كيف تُنْجِزُ كُلَّ يومٍ/ أَلّفَ بحرٍ مستحيلٍ/ كيفَ تكْنسُ عن شِغاف الرّمل/ كلَّ ملوحة الصدأ/ الذي اختنقَتْ نوارُسُه/ بغاز الطّين والرغوة/ كيف ابتكرتَ من السلاسل في يديكَ/ أساور القدس التي تزهو/ بورد العز والنخوة؟/، لقد صعَدت اللغة الشعرية في هذا النص إلى فضاء الذروة بخصوبةٍ جامعة ومعاصرة وبالوقوف على أزمة فلسطين في الأسئلة التي أدارها الخيال الخصب في التحليل وصولاً إلى المعاناة البعيدة عالمياً. وكان وراءها المناخ النفسي الذي ارتقى فيه الشاعر سلّم الأبعاد في التكوين الفيزيائي كصوت إنساني بجدلية بلاغية معاصرة. وبالدخول إلى السّياق الجديد وقد تتحوّل تفكيكاته في اقتحام الموروث الشيطاني الذي تعيش فلسطين في أزمتها الكبرى تشظياته بدعم غربي معادٍ للإنسانية ولكل ماهو حيوي على صعيد التجارب المضيئة في النّص الشعري كما سبقت الإشارة إليه في التعبير المتجدد داخل وجهه العربي الحضاري والثقافي، وبقراءة مفيدة للتاريخ وجاءت فيها بعض التفاسير المنهجية للانفعال المعتمد ضد شهادة الزور عند الكشف عن الأزمات ومنها (أزمةُ الأَرْزِ) التي نقلها النص الشعري بوشائج موحدة نقديّاً مدلّلاً على ثقافة التفاعل الشديد في العلاقة مع لبنان وغيرها، وتحت هذا التوليف نقرأ هذا العنوان: (أَرْزٌ يفِرُّ من الدّمار) مشيراً إلى الأحداث التي عاشها لبنان تحت غلبة الشّخصنة في رتبتها الصانعة للأزمات التي أوصلهُ إليها الصراع الداخلي بين الأنظمة لمواجهة العدو الأول إسرائيل، حيث يقول الشاعر توفيق:
لا وقتَ للشهداءِ كي يتألّموا
لا وقتَ للفقراء كي يَلِدَ الدَّمُ
سَدَّتْ نوافذّها الجهاتُ فحاوِلوا
أن تُقنعوا بالشّحم من يتورَّمُ
هذا زمان ٌترتمي ضحكاتُنا
نَوْحاً به ويَفيضُ بالوجد الفم ُ
في صمتنا لغة ٌتفيض مرارةً
فبأيّ شيءٍ يا تُرى نتكلمُ؟
في وعي الشاعر الفني تنبسط اللغة باللهفة والحنين وهو يعانق نصّه بوجوه مختلفة على صعيد اجتماعي وثقافي واقتتال داخلي على الصعيد السياسي، وهذا واقع معروف بالنسبة للذاهبين للشرعنة والمعارضين لها.
لكنّ بلاغة النص في هذه الاستعارة المكنيّة التي شبه فيها الدم بالإنسان الذي يلد الدم وما رافقها من التشابيه والكنايات بقولة: /أسندت نوافذها الجهات/، /ويفيض بالوجد الدم/، وقد أظهرت المحاكاة للمنجز الشعري في النص مرافئ للذاكرة في اللغة المبدعة فنّيّاً.
وقد نقل النص في شعريته الأناقة البلاغيّة تجاه التضحيات التي قدمها الشهداء في لبنان خلال مواجهة العدو الإسرائيلي.
وأستطيع القول أخيراً: إن الحداثة الشّعرية في المجموعات التي وقفت على بعض النصوص فيها داخل مناخاتٍ عصريّة متعددة وعلى الدروب التي امتحنها الشاعر في عالمه القريب والبعيد بدايةً من قريته وصولاً إلى دول بعيدة ومنها ألمانيا وغيرها قد عجّل بمكوناته الثقافية داخل مشروع مستقبلي يرفض النماذج التي تُخِلُّ بالعلاقات الإنسانية والسياسية وأسباب مكوّناتها على كل الأصعدة.
واستطاعت لغتُهُ الشعرية أن تحتفظ بالمكان وصولاً إلى دواخله الأخلاقية والإحساس بالانتماء إلى أشيائه الأخرى حتى لم يترك قطرةَ شمسٍ يُمْكِنُ أن يحجبها (منخل) الأمهات في لحظة ٍ قد تضيع بها العتبات.
وهو شاعرٌ امتلك أدواته واستولد معها وحدة النص الكاملة التي ترقى إلى مستوى أعلى في شواهد الحياة الفنيّة والشعريّة.
العدد 1204 –10 -9 -2024