الملحق الثقافي-ر . س:
قيل عنها إنها من أكثر الكاتبات السوريّات نجاحاً وجرأة وحباً للحياة، القاصّة والروائيّة ألفت الإدلبي، لم تصل إلى إشراقات الريادة في الأدب النسوي بهذه البساطة، ولم يكن الحظ سنداً لها خلال مسيرة حياتها، بل تحدّت ظروفها الشخصيّة الصعبة، وسلكت درب الإبداع بتنقّلها ومرايا حروفها للولوج بقضايا النساء المكسورات، القابعات خلف جدران الذكورة الظالمة في مجتمع شرقيّ يفرض شرائعه الجائرة عليها، وربما وحدة الأدلبي على خمسة إخوة ذكور وزواجها المبكّر جعلاها هذه المرأة الأكثر حساسيّة تجاه قضايا الأنثى والتقاط مشاهد حياتيّة وتوظيفها في القصص والروايات في وقت كان يصعب البوح بشؤون وشجون المرأة وكسر حاجز الصمت آنذاك.
ألفت الإدلبي ياسمينة دمشقيّة لا تنسى، وهي من قالت عن مدينتها في رواية وصّفت فيها حالة الانتماء، لمجتمع كامل وبطريقة سرد موصوفة لواقع دمشقي الهوى والهويّة وهي «دمشق يا بسمة الحزن» التي تعد من أشهر رواياتها والتي تصوّر معاناة «صبريّة» فتاة سورية شابة بين يدي المحتل الفرنسي وضغوط المجتمع المتمثل بعائلتها وبحثها عن هويتها الشخصيّة والوطنيّة، فكتبت الأدلبي فيها:
«دمشق بعد الكارثة الرهيبة حمامة وادعة تطوي الجناح على الكسر وتظلّ صامدة بإباء وشموخ. دمشق يا بسمة الحزن. يا جمّالة الأسى! ذهب الغزاة والطامعون وظللت أنت خالدة على الدهر!».
وكيف لا تعشق ألفت الإدلبي مدينة دمشق وهي مسقط رأسها عام 1912، وروحها سكنت أحياءها القديمة وخاصة حيّ الصالحيّة، درست في مدرسة «تجهيز البنات» بدمشق، ثم انتقلت إلى مدرسة «العفيف» العريقة في دمشق، قبل انتقالها عام 1927 إلى «دار المعلمات».
لعبت الحقبة السياسيّة والاجتماعية التي مرّت بها البلاد آنذاك دوراً كبيراً، في الثقافة والانتماء الدمشقي والمراحل التعليميّة وهو ما شكّل الهويّة الأدبيّة لألفت الإدلبي، فكان تأريخ الحالة الاجتماعيّة سيد الموقف، من خلال قصص وروايات ومقالات للناشئة، إضافة إلى الولوج في عالم دمشق وبيئتها الشاميّة حيث أصدرت روايتها «قصص شامية» عام 1954، والتي فازت في مسابقة الإذاعة البريطانيّة عن جائزة أفضل قصّة في الوطن العربي.
وفي عام 1974 قدّمت الأديبة «الإدلبي» أحد أبرز دراساتها الموسوعية التي أرشفت لعصور خلت بعنوان «نظرة إلى أدبنا الشعبي»، تغنّت بتراث وعادات دمشق لعقود كثيرة،ونقلت كل تقليد من تقاليدها في أغلب مجموعاتها القصصيّة، ومن ينسى قصة «عصي الدمع» التي تحوّلت إلى مسلسل تلفزيوني، إضافة إلى العديد من الروايات والدراسات مثل «حكاية جدي» و»نفحات دمشقيّة».
القاصة والروائية ألفت الإدلبي وظّفت أدواتها الأدبية والفكرية في خدمة وإعلاء دور المرأة وكشف الستار عن همومها والتطرّق إلى مشكلاتها، فاستطاعت أن تترك بصمتها في عقول النقّاد المتخصّصين بالشأن الثقافي ليس في سورية وحسب بل في الوطن العربي أيضاً، فحجزت لنفسها مكانة أدبيّة مرموقة واهتماماً من قبل النقّاد منذ خمسينيات القرن الماضي، لإبداعها وتميّزها القصصي برؤية مبدعة ولغة متميّزة وأسلوب بسيط ورشيق، ولغة سلسة اكتسبتها من المطالعة ومن ممارسة الكتابة. فقد قدّم الأديب المصري محمد مندور لمجموعتها القصصيّة الأولى، رأيا ًبقوله: «هذه القصص طراز خاص وشخصيّة مستقلة»، وتلك شهادة كانت أديبتنا تعتّز بها اعتزازاً كبيراً، إضافة شهادة للناقد والأديب مارون عبود قال فيها: «أنا أؤمن بالذاتية، وقد وجدت ألفت الإدلبي ذاتاً، وعلى هذا الأساس بنيت تقديري لها».
لم تصل الإدلبي إلى هذه المرحلة من الإشعاع والتفرّد في نضوج تجربتها الأدبية واتساع دائرة الوعي والفكر لديها إلا بعد اطلاعها على ثقافات عالميّة وتلاقح الأفكار والتعرّف على الأدب العالمي فقد قالت ذات حوار: «لقد قرأت أعمال أنطون تشيخوف، وأعمال الكاتب الإنكليزي سومرست موم، وأيضاً أعمال الكاتب الشهير موباسان، وقد تركوا في نفسي وأسلوبي الكثير من التأثير والإعجاب. إن الكاتب يختزن في عقله الباطن الكثير من الأفكار والمعلومات والآراء، وعمليّة التمثّل واردة لدى الجميع، وأنا لاشك قد استفدت من قراءاتي لأعمال الآخرين، ولابد أن يكون ذلك قد ظهر بشكل أو بآخر في بعض أعمالي».
صدّرت ألفت الأدلبي فكرها النيّر إلى العالم، فأوصلت رسالتها الفكرية الإنسانية الشفيفة بعيداً جداً، وتُرجمت أعمالها القصصيّة إلى عدد من اللغات الأجنبية، منها:
الإنكليزية، الألمانية، الفرنسية، الروسية، الهنغارية، الصينية، الإيطالية، التركية.. إلخ، كما تمّ اعتماد عدد من قصصها القصيرة لتدرس في جامعات عالميّة، كجامعات الصين والولايات المتحدة وإسبانيا وروسيا وأوزبكستان، ووُضعت بعض أعمالها في مكتبة بكين الوطنيّة.
فأصبحت الإدلبي من أهم الأديبات السوريات في مجال القصة والرواية، وقد حصلت على العديد من شهادات التقدير والجوائز السوريّة والعالميّة، فأغنت المكتبة العربية بمحتوى أدبي وثقافي مرموق من خلال الكثير من القصص والروايات والدراسات الأدبية التي تميّزت بالواقعيّة والتركيز على العادات والتقاليد الشرقية.
وعلى سبيل الذكر وليس الحصر لها العديد من الروايات والمجموعات القصصية، من أهمها: «قصص شامية»، «وداعاً يا دمشق»، «ويضحك الشيطان وقصص أخرى»، «عصي الدمع»، «ما وراء الأشياء الجميلة». ولها روايتان: «دمشق يا بسمة الحزن»، «حكاية جدي»، ومن الكتب والدراسات النقدية: «وداع الأحبة»، «نظرة في أدبنا الشعبي: ألف ليلة وليلة وسيرة الملك سيف بن ذي يزن»، «المنوليا في دمشق وأحاديث أخرى»، ومجموعة ضمت المحاضرات والأحاديث التي ألقتها في كل من دمشق وحلب، «عادات وتقاليد الحارات الدمشقية القديمة».
الأديبة ألفت الأدلبي تمثّلني وتمثّل المرأة العربيّة الأصيلة التي تتمتع براجحة العقل وبفيض الأنوثة، تقدّر عاطفتها كأم وأخت وزوجة، تعي تماماً حقوقها وواجباتها، ومن هنا حلّقت بنا بجناحي امرأة ورجل، لتطلق من حنجرة كتاباتها كل تلك الأصوات النسائيّة التي علّت تستغيث الحق والحريّة والحياة.
العدد 1204 –10 -9 -2024