الملحق الثقافي- عبد الحميد غانم:
في زمن التحرر الوطني، كانت الفكرة العربية نقطة جذب فكري وسياسي ووجداني ليس للنخب الثقافية والسياسية فحسب، وإنما للقاعدة الشعبية الأوسع.
كانت العروبة ترادف، حين ذاك، المرجعية الجامعة والمشروع السياسي والمستقبل التحرري والوحدوي.
من كان يعزل نفسه عن تيارها يحكم على نفسه بالهامشية، ومن كان ينخرط في معركتها ضد الاحتلال والتجزئة والأحلاف يكتسب شرعية أوفر هل لا زالت الفكرة العربية اليوم هي الأولى والأفضل.
اليوم ومنذ عقود، اختلف الأمر كثيرًا، حيث أتى من ينافس الفكرة العربية في مرجعيتها السياسية والوجدانية، هي الفكرة الوطنية( = القطرية )، وهناك الفكرة الإسلامية.
ولم تكن المنافسة فقط على السيادة الفكرية والإيديولوجية، وإنما كانت منافسة على كسب تمثيل المجتمع والرأي العام أيضاً.
وإذا كان من المفترض نظريًا أن لا تتعارض هذه الأفكار بالضروره وأن يتجاوز في وجدان السوري أو المغربي أو المصري أو العراقي الشعور المركب في الانتماء الوطني والقومي والديني من دون صدام أو تمزق فإن الواقع هو أن مثل هذا التجاور لم يقع دائمًا، وأن التلاغي بينها حصل في حالات كثيرة بل في أكثر الحالات وغالباً على حساب الفكرة العربية.
الذهاب بالوطنيات من حدود الحقيقة السياسية إلى حدود التبجيل الإيديولوجي هذا، فهو بمقدار ما حول تلك الوطنيات إلى عصبيات مغلقة جديدة في فقدان ما رأى في العروبة الخصم والعدو الذي يهدد الكيانية الوطنية.
ولم تكن أخطاء الفكرة العربية في حق الفكرة الوطنية أقل، فهي شنت عليها تحت اسم التجزئة وحرضت ضد وجودها وشرعيتها الواقعية، فدفعت الفكرة الوطنية إلى سلوك في سبيل الدفاع عن نفسها، من طريق الهجوم على العروبة.
وهي صدمت بالفكرة الإسلامية ثقافيًا وسياسيًا في الغالب من تاريخ الصلة بينهما، وبالغ بعض ألسنتها وأقلامها في تظهير الاختلاف بين العروبة والإسلام اختلافًا في الماهية لا في الرابطة، فكان لذلك أن ذهب دعاة الفكر الإسلامي إلى إدانة العروبة والتشكيك فيها، واتهامها بأنها فكرة مسيحية عربية، صيغت لتفكيك رابطة الإسلام.
وها هي العروبة اليوم تدخل في علاقة غير مستقرة بالفكرة الأقوامية المتنامية في البلاد العربية منذ حرك التدخل الأجنبي بعض الأقليات والطائفية.
وبعد تاريخ طويل من استيعاب العروبة لأقوام عاشت في كنف كيانها السياسي والثقافي، لا تزال المشروعات والمخططات الإمبريالية تعمل على تفكيك المجتمعات العربية عن طريق نشر الفتن المذهبية والطائفية والإثنية.
وما تعرضت له معظم الدول العربية خلال هذا القرن دليل على أن هذه المخططات مستمرة في استهداف الدول العربية في مكنوناتها الداخلية.
و طبعا ليست العروبة مسؤولة دائماً عما جرى.
قد تكون وهي كذلك كانت ضحية لمن نصبوها العداء أو آذوها بسياساتهم الاستعمارية والصهيونية.
النظام السياسي الغربي والقوى الانفصالية والتطرف القومي إلى آخره.. لكن مسؤولية العروبة وقواها المتنورة كبيرة اليوم مطلوب منها وضع حد لهذه الحال من التدهور في معناها وصورتها وفي إعاده بنائها على خيارات حضارية عصرية، العروبة تواجه اليوم وفي المستقبل تحديات في درجة كبيرة من التأثير.
أولها التحدي الثقافي وثانيها التحدي السياسي ويرتبط مستقبل العروبة وصورتها بمدى ما تستطيع جبهة التحديين وجوابًا عنهما الجواب التاريخي المناسب لأن أي من التحديين، بما لا يهدد العروبة بالزوال أو الانفراط كرابطة أو كما هي ثقافية اجتماعية، لكنها قطعاً تتأذى من أي فشل في احتواء آثار ما يعرض لها من تحد، وتدفع ذلك من صورتها.
يفرض التحدي الثقافي على الفكرة العربية وجهين من التحديات، الأول يحتاج إلى وعي عربي للحفاظ على العروبة وعلى معناها الحضاري كرابطة ثقافية ولغوية بالمعنى العصي، لا كما هي عرقية أو رابطة دموية.
فمثلاً كان للعرب في هذا الشيء خبرة تاريخية من الماضي، حتى عنت العروبة هذا المعنى في لحظة مد حضاري من تاريخها.
ويتعلق العنوان الثقافي الآخر إلى الحاجة إلى تحرر فكرة العروبة، والوعي التي يحملها من كثير من اليقينيات التي تسد عليها أبواب التقدم وسبله، ومن ذلك مثلاً الاعتقاد بالاكتفاء الذاتي على الصعيد الثقافي وغناء النفس عن أي مولد من خارج نطاق العروبة ومجالها الثقافي الحضاري، وتمت الكثير في مواريث فكرة العروبة في الوعي العربي مسؤول عن توليد مثل هذا الاعتقاد وتنسيقهم.
ففكرة الهوية العربية أو القومية مثلاً توحي لكثير من حملتها بمعنى حصري لا مزيد عليه ولا يتبدل مقتضاه أن الهوية ثابتة لا يلحق التغير وأنها تتغذى من نفسها وتحفظ جوهرها الأصيل، كما امتنعت عن الأخلاق والعناصر الخارجية والنداء التاريخي للاستعمار والامبريالية وهو مشروع يقود أحيانًا إلى نوع من الأمهات غير المشروعة بين الغرب السياسي الرسمي الامبريالي والغرب الثقافي، فتكون النتيجة، أن رفض الثقافة الغربية أو تنميطها في صورة ثقافة استعمارية يتحول إلى طقس قومي يمنع عن الثقافة العربية الماء والهواء.
إن العقل العربي والقومي العروبي على نحو خاص أمام تحد كبير هو تحدي التكيف مع معطيات العقل الكوني وتراثه الثقافي المعاصر وهو قطعًا، لن يتماسك في مواجهة هذا التحدي إلا بالانفتاح على ثمرات المعرفة الإنسانية والانتهال من مكتسباتها، حيث تغتني فكرة العروبة، كلما اغتنت ثقافتها، وتصاب بالتكلس والهزال كلما ضمرت ثقافتها واختفت هذه داخل أسوارها المغلقه باسم الأصالة والهوية وما في معناهما.
أسئلة كثيرة مطروحة للارتقاء بثقافتنا وعروبتنا وقدرتهما على التكيف بمعطيات العقل الكوني المعاصر.
العدد 1206 –24-9 -2024