صفية بن زقر أشعلت شموع قلبها بالحارة الشامية

الملحق الثقافي- آمنة بدر الدين الحلبي – جدة:
من وراء جدران الحاضر سمعت صوت الحارة الشامية في قلب عروس البحر الأحمر «جدة التاريخية» ترثي الفنانة صفية بن زقر التي شهدت ولادتها وتحت أروقتها شبَت على عشقها، وتغنت بجمالها حين رصدت جمال الرواشين بفرشاتها معلنة بدء التغني في صومعة الفن والجمال.
الفنانة السعودية صفية بن زقر رصدت منمنمات الحياة بتأملاتها العطشى للجمال منذ نعومة أحلامها حين اعتلت فرشاتها لتنقش جمال الإرث التاريخي في قلب جدة التاريخية وتفردت بمبانيها العتيقة التي صبت بألوانها عبق التاريخ وخلدت ذكرى روحها الطاهرة التي غادرتنا للدار الأجمل والأبقى.. وكأن تلك المدينة بكل ما تحمله من موروث ثقافي بعمارتها وسكانها قد استوطنت في روح صفية بن زقر مع شهقتها الأولى من ولادتها فولد ذاك الرباط الوثيق بينها وبين أروقة التاريخ واشتد مع مرور السنين.
وحين سافرت بعمر الطفولة إلى القاهرة عام 1947م مع أهلها حملت على جسد ذاكرتها إرثها التاريخي وزرعت عبق الحارات ظل طوال سنين يراودها، وشوق يشدها إلى دفء البيوت وعطرها ورواشينها الهندسية التي كانت تؤنسها في غربتها.
في عام 1963 عادت صفية بن زقر إلى مدينة جدة، لكنها أدركت بعفويتها أن عواصف التغيير قد عصفت بالمدينة التي رسمتها على جسد ذاكرتها وبدأت تخرج من حدود أسوارها المنيعة، وحاراتها الضيقة التي كانت متحدة كجسد واحد، ومتلاصقة بزخارف لا مثيل لها.
حين وصلت استغربت نزوح السكان إلى المنازل الخالية من عبق الحياة، تاركين خلفهم عاداتهم المتوارثة، وأزياءهم الجميلة المتسمة بالنقوش والزخارف.
لم تجد الفنانة صفية ما يشبع مشاعرها ويروي حنينها إلى المكان الساجد على صدر الطبيعة الجميلة، لترى فيض نور الصباح موشى بالزخارف الجميلة كما تركته من منذ زمن ونيف.
لم تجلس صفية مكتوفة الأيدي بل أشعلت شموع قلبها لاسترجاع تلك السنوات القصيرة التي عاشتها في ذلك المكان.. في أواخر عام 1965 عادت إلى القاهرة لتنمية هواية الرسم عن طريق الدروس الخصوصية.. ثم سافرت إلى بريطانيا وأمضت عامين في لندن بكلية «سانت مارتن» ضمن برنامج دراسي حصلت بعده على شهادة في فن الرسم والجرافيك.
فضمت فرشاتها بين أناملها بإرادة قوية وعزيمة لا مثيل لها لإعادة بناء مدينتها المتكاملة بمبانيها وسكانها وعاداتها وتقاليدها بأفراحها وأحزانها من خلال استرجاع زمنها الطفولي الذي عاشته بدقائق الأثير والاحتفاء به.
أطلت في أعمالها «جدة التاريخية» لتنير الحاضر وترسم المستقبل لتنقل بمنتهى الدقة والأمانة الحياة الحقيقية لحارة الشام وما يدور خلف الرواشين الهندسية المزخرفة والجدران الحجرية الباردة وما يدور بالحارات الأخرى تتصدر لوحات صفية بن زقر بأسلوب فني مميز يشهد عليه القاصي والداني.
فطلت جدة بتراث لن ولم يتبدد، ولم يخفه الزمان، وما وراء الرواشين من حفلات أفراح ونجاح، وارتباط عائلي في الأعياد وإرث ثقافي جميل.
الفنانة صفية بن زقر تعتبر من رائدات الفن التشكيلي في المملكة العربية السعودية ومن مؤسسي الحركة التشكيلية وقد بدأ مشوارها الفني الطويل بأول معارضها عام 1968م والذي يعتبر تجربة ناجحة خاضتها صفية بمجهودها الخاص.. وبعد هذا النجاح توالت معارضها المحلية في كل مناطق المملكة.. كما افتتحت معارضها الدولية في كل من باريس وجنيف ولندن حتى أصبح لها حصيلة ثمانية عشر معرضاً شخصياً، وستة معارض جماعية، عرفت من خلالها صفية بن زقر كفنانة التراث السعودي محلياً ودولياً.
وبما أن الذاكرة الفنية كانت حاضرة باستمرار عند الفنانة صفية قامت بتوثيق التراث عبر لوحاتها الفنية كونها كانت في صراع مع الزمن فاعتمدت على التصوير الفوتوغرافي لإنقاذ ما يمكن من الصور التي أخذت تزول من حولها تدريجياً لتعيد إنتاجها مع ما تستحضره الذاكرة من أيام الزمن الجميل.. لتصبح أعمالها الفنية سجلاً مرئياً حافلاً بتاريخ الماضي.
وتحقق حلم صفية بعد ثلاثين عامًا من رحلة في مجاهل الفن التشكيلي بتأسيس «دارة صفية بن زقر» عام 1995م ضمت لوحاتها ومقتنياتها الفنية. إضافة إلى مرسم الفنانة ومكتبتها الخاصة.
ولم تكتف الفنانة صفية بذلك بل وقد أرادت أن تكون الدارة منبراً ثقافياً شاملاً يستنير به الأجيال، ففتحت أبوابها لاستقبال الزوار والباحثين كما أقامت ورشات عمل فنية للكبار والصغار، وقدمت محاضرات ثقافية فنية لجمهور من المهتمات بالأدب والفنون التشكيلية.
في عام 2000م صدر الكتاب الثاني للفنانة صفية بن زقر «رحلة عقود ثلاثة مع التراث السعودي». توضح فيه صفية أهداف ونشاطات الدارة بعد رحلة ثلاثين عاماً من العمل المتواصل والمثابرة من أجل توثيق التراث بشكل جمالي وبنـّـاء.
مهما تكلمت عن الفنانة صفية لن أفيها حقها حين نقلت إرث مدينتها التاريخي وأحيته من جديد بأسلوب يعينها في الوصول إلى مبتغاها من خلال تفاصيل لوحاتها ودقتها الفنية المتعددة للحياة الاجتماعية في محيطها، وبيئتها المحلية، التي كانت بمثابة القاعدة العريضة لفنها بكل ما تحمله من حميمية وصدق ووضوح في عذوبة ألوانها وشخوصها وتكوينات موضوعاتها في تناسق إبداعي لا مثيل له، وكم كانت متأثرة بكبار الفنانين الانطباعيين والتأثيريين أمثال سيزان، إلى جانب تأثرها بفن شرق آسيا من خلال لوحتها «امراة بدوية».
لكنها استطاعت فيما بعد أن ترسم طريقاً مستقلاً لفنها ونجحت على جميع الأصعدة لتخرج بخصوصية متفردة وبصمة واضحة مرسومة بعناية «فن صفية بن زقر» وصاغت لغتها التشكيلية بأبجدية ذاتية من خلال بساطة التكوين وقوة البناء والاهتمام بكل كتلة في العمل منوعة بأدواتها معتمدة على مَلَكتها الذاتية، وحسها الفني المميز لتقدم تنوعاً هائلاً في فنها مراعية التجانس والانسجام في أعمالها، لتقدمه عملاً تشكيلياً مميزًا بكل جوانبه.
رحم الله الفنانة صفية بن زقر وأسكنها الفردوس الأعلى من دار الجنان.
                           

العدد 1206 –24-9 -2024      

آخر الأخبار
السيف الدمشقي.. من فولاذ المعركة إلى برمجيات المعرفة إعادة دمج سوريا بمحيطها العربي مؤشر على تشكيل تحالفات جيوسياسية واعدة عبر البوابة البريطانية.. العلاقات السورية الأوروبية نحو انطلاقة جديدة امتحان الرياضيات لطلاب البكالوريا المهنية- المعلوماتية: بين رهبة المادة وأمل النجاح الخبيرمحي الدين لـ"الثورة": حركة استثمارية نوعية في عدة قطاعات الرئيس الشرع يتقلد من مفتي الجمهورية اللبنانية وسام دار الفتوى المذهَّب حرب إسرائيل وإيران بين الحقائق وإدعاءات الطرفين النصرالمطلق ألمانيا تدرس سحب الحماية لفئات محددة من اللاجئين السوريين "قطر الخيرية" و"أوتشا".. تعزيز التنسيق الإنساني والإنمائي في سوريا بعد 14 عاماً من القطيعة .. سوريا وبريطانيا نحو شراكة دبلوماسية وثيقة 10 مناطق لمكافحة اللاشمانيا بدير الزور الاقتصاد الدائري.. إعادة تدوير لموارد تم استهلاكها ونموذج بيئي فعال الحرائق في اللاذقية .. التهمت آلاف الهكتارات من الغابات والأراضي الزراعية 1000 مستفيد في دير الزور من منحة بذار الخضار الصيفية الحشرة القرمزية... فتكت بشجيرات الصبار مخلفة خسائر فادحة مشكلات تهدّد تربية النحل بالغاب.. ونحالون يدعون لإحداث صندوق كوارث الأتارب تُجدّد حضورها في ذاكرة التحرير  الثالثة عشرة وزير الطوارئ يبحث مع وزير الخارجية البريطاني سبل مكافحة حرائق الغابات تحية لأبطال خطوط النار.. رجال الإطفاء يصنعون المعجزات في مواجهة حرائق اللاذقية غابات الساحل تحترق... نار تلتهم الشجر والحجر والدفاع المدني يبذل جهوداً كبيرة