إيمان زرزور:
“الوطن ليس تراباً فقط.. بل عقل وحلم وساعد”، فلا تُقاس قيمة الأوطان بالحدود الجغرافية ولا بعدد السكان، بل تُقاس بثروتها البشرية التي تصنع الأمل وتبني المستقبل، وعندما تُجبر العقول على الرحيل، لا تغادر الأجساد فقط، بل ترحل معها الأفكار والمشاريع، وتُطفأ جذوة الحلم في دروب المنافي التي تستنزف تلك الطاقات وتكرسها لخدمتها.
لم تبدأ هجرة العقول السورية مع الحرب وحدها، لكنها تفاقمت بشكل غير مسبوق منذ اشتداد العنف الذي مارسه نظام الأسد المخلوع ضدّ كل ما هو حيّ ومُبدع، فالطبيب الذي ظلّ صامداً في المستشفيات الميدانية تحت القصف، وجد نفسه مضطراً لمغادرة البلاد بحثاً عن بيئة تحترم علمه وتحفظ كرامته، والمهندس الذي حلم بإعادة إعمار وطنه، أصبح يشرف على مشاريع في مدن لا يعرف لغتها، أما المفكر والمثقف، فوجد المنفى منصة لفكره بعد أن ضاقت به جامعات بلاده وخنقته الأجهزة الأمنية.
سوريا ليست نقطة هامشية، بل عظيمة بكوادرها وطاقاتها، أنجبت أطباءً، ومهندسين لامعين، ومفكرين أثّروا في المشهد العربي والعالمي، وجدت تلك الطاقات نفسها فجأة أمام موجة نزوح جماعية لعقولها النخبوية، في نزيفٍ طال العمق التنموي، بعد أن تعرضوا لشتى أنواع التصفية والاستهداف ليس في عهد “بشار” فحسب، بل في عهد الأب “حافظ” إذ حاربهم وقتل الإبداع لديهم، خوفاً على سلطته، ولو على حساب تراجع البلاد وعدم تطورها.
وبعد عقود من البعد ومحاربة الفكر والإبداء، بات السؤال المُلحّ اليوم، هل يمكن لتلك العقول أن تعود؟ وهل للوطن فسحة تنتظرهم بعد سقوط نظام الأسد البائد؟، ولاسيما أن السوريين أثبتوا في بلاد الاغتراب من شرق العالم إلى غربه، أن لديهم طاقات وقامات في الإبداع بشتى المجالات التنموية والفكرية والتجارية والتكنولوجيا وشتى أنواع المجالات.
خطوات ملموسة بدت في السياسية الخارجية للدولة السورية الجديدة، من خلال استقبال رجال الأعمال وتشجيعهم على العودة، استقطاب الخبرات والطاقات التي عادت إلى دمشق تستقصي حال البلاد بعد عقد ونصف من التخريب والتدمير، كثير من الشخصيات أبدت جاهزيتها للعمل والمساهمة في البناء، وآخرون يترقبون الوضع الأمني وما ستؤول إليه البلاد.
ومما لا شكّ فيه أن هجرة العقول والخبرات لها آثار كبيرة على المجتمع والتنمية، فقد جعلت سوريا في “فراغ تنموي قاتل” مع غياب النخب العلمية والمهنية، وخسرت سوريا العمود الفقري لمستقبلها في الطب، والتعليم، والصناعة، والاقتصاد، كما ساهمت في “تدهور البحث والإنتاج المعرفي” فالجامعات التي كانت تُخرّج المتميزين باتت تعاني من تراجع خطير في مستواها العلمي، مع غياب برامج البحث والتطوير.
ولابد من لفت الانتباه إلى حالة الانكسار الرمزي في الوعي الشبابي، عندما يرى الجيل الجديد أن القدوة أصبحت في الخارج، يتحول الانتماء إلى عبء، ويصبح الهروب هدفاً، وتهاجر الآمال من داخل النفوس، وهذا ما كان واضحاً في عهد نظام الأسد المخلوع، من تهافت فئة الشباب على دوائر الهجرة طامحين في الخروج من الجحيم إلى مكان يقدّر طاقاتهم وإبداعهم.
واليوم باتت مهمة “استعادة العقول” ضرورة مرحلية لبناء سوريا الجديدة، بدأت المهمة تلك بإسقاط منظومة الطرد وإنهاء فكر الإقصاء والتمييز القائم على أساس الولاء، فسوريا للجميع، فالخطوة الأهم هي “تغيير المنظومة التي دفعتهم للرحيل، وليس من مجرد دعواتٍ عاطفية للعودة”، فلن يعود الطبيب ما لم يجد مستشفى آمناً يحترم علمه، ولن يعود الباحث ما لم تتوافر مراكز بحثية مستقلة وممولة، ولن يعود المفكر ما لم تُضمن حرية التعبير والرأي من دون تهديد أو رقابة.
بوادر أمل جديدة تلوح في سوريا الجديدة، مع إصرار شعبي وحكومي على البناء وضرورة النهوض في سوريا، فالوطن لا يُبنى بالحجارة فقط، بل بالفكرة، وباليد التي تصنع، وبالعقل الذي يحلم، وهجرة العقول السورية ليست قدراً دائماً، بل مرحلة مفروضة بقوة القمع والتهميش، ويمكن تجاوزها بعد أن زالت الأسباب وتوافرت الإرادة، فحين يعود الأمان، وتُصان الكرامة، وتُفتح أبواب المؤسسات لا السجون، سيعود السوري الذي حمل وطنه في حقيبته، ليزرعه من جديد على أرضه، لأن العقل السوري لا يُشترى، لكنه يبحث فقط عن وطنٍ لا يُقصيه.