الثورة – رنا بدري سلوم:
أذكر جيداً حين دخلت المكتبة لأطبع ورقة عملٍ لطفلي في المرحلة الابتدائية، وكان ثمنها خمسمئة ليرة لورقة واحدة، فكيف إذا كان لدى الأسرة طفلان والأوراق المطلوبة تتعدى العشرات.. وكيف إذا وسّعنا دائرتنا الصغيرة ودخلنا في أوراق الامتحانات الفصليّة، والتي كان الكادر التدريسي آنذاك يطالب الطلاب بدفع قيمة النشاط بمقدار ألف ليرة من كل طالب لتأمين أوراق امتحاناتهم، وأحياناً كثيرة يعتمدون على
الأيادي البيضاء لتأمين “مواعين” ورق! هذا حال الأسرة والمدرسة واحتياجهما للورق.. فماذا عن الكتب؟! مسألة حقاً صعبة، ولاسيما بعد أن تنفسنا أو سنتنفس الصعداء بعد فك الحصار ورفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا والتي تلعب دوراً مباشراً في تحريك دوران عجلة الإنتاج لكل المشاريع التنموية والخدمية والثقافية.
توجّهنا بالسؤال إلى أصحاب دور الطباعة والنشر والتوزيع.. هؤلاء الذين يرون الورق مهماً كرغيف خبزهم اليوميّ، كيف عانت الدور خلال فترة الحصار الاقتصادي وهل توقفت عجلة الإنتاج وطباعة الكتب، وما هي رؤاهم المستقبليّة بعد تطبيق رفع العقوبات الاقتصادية؟
العزوف عن الطباعة كثيرٌ من الكتّاب لم يستطيعوا طباعة كتبهم فلجؤوا إلى أحد المكاتب المتواضعة في الحلبوني بدمشق واكتفوا بتصوير كتبهم عبر آلية الليزر بنسخٍ محدّدة وسعر مقبول، وكتّاب آخرون طبعوا نسخاً ورقيّة على نظام “البلاكات” لا تتجاوز أصابع اليد وكانت التكلفة عالية وبالتقسيط المريح.. أيضاً! في وقت لجأ معظم الكتّاب إلى طباعة الكتب خارجاً بسبب ارتفاع التكّلفة والتوزيع في سوريا، وأدباء اكتفوا بطباعة إلكترونيّة في الخارج ونشرها وتوزيعها في العالم الرقميّ من دون أرشفتها ورقيّاً حتى.
كانت تعمل دار بعل في أحلك الظروف، ولم تستكن عجلة إنتاجها أو تتوقّف، وفقاً لما ذكره مدير دار بعل الأديب محمد عيسى لصحيفة الثورة.. الذي أكد أنه بعد مرور عشرين عاماً على إبصار الدار النور، كانت تستقطب العديد من الكتّاب من كل المحافظات والدول العربية، وتطبع بما تيسر، مؤمنة بوجود الكتاب وأهميته ودوره التنويري.
وعن المعاناة التي عاشها خلال فترة الحصار الاقتصادي. يقول عيسى: لعب الدولار لعبته الخفية، فحتميّة طباعة الكتب مرتبطة به، هو ومن يملكه يضعان حجر عثرة أمام الإنتاج، فكانت عقبة أمام مشاركتنا في المعارض الدوليّة لذا اكتفينا كدور نشر بالطباعة فقط. على أرض الواقع وعن الرؤية المستقبليّة لرفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، ينتظر عيسى ما يمكن أن يحدث ويترجم على أرض الواقع والأهم والقول له هو العامود الفقري للطباعة “الدولار” وقيمة الليرة وكيف تترجم في الدّاخل السوري، ويعطي مثالاً قبل فك الحصار، كتاب ١١٢ صفحة، يقدّر بنحو مليون و٦٠٠ ألف ليرة سورية وبالتالي وصلت تكلفة الكتاب الواحد إلى ١٠ دولارات، فقد ارتفع سعر الطن الواحد من الورق إلى مليوني ليرة سورية، وهذا الأمر يحدده تجّار الورق الذين يملكون ذمام الأمر عن طريق الاستيراد والتصدير والطرق التي يتكبدونها لإيصاله إلى الدار. إن إنتاج الكتاب الورقي في سوريا شبه متوقف بل بنبضٍ متقطّع، بسبب الظروف الماليّة السيّئة، فالوضع الاقتصادي لدى المجتمع السوري وضعف القوى الشرائيّة عند القراء جعلهم يبتعدون كل البعد عن اقتنائه، فقلّت نسبة الطلب والإقبال عليه، بالإضافة إلى- وكما أسماها العيسى- تعقيدات وزارة الإعلام سابقاً في إلزام شروط طباعة الكتاب والوقوف أمام قبول الكثير منه ومنحه الموافقات اللازمة بالموافقة على تداول الكتاب وغيرها من الأسباب، ما جعل الكتّاب والأدباء يعدّون ألف مرة قبل أن يبدؤوا بخطوة الطباعة الورقيّة.
علاقة عكسيّة تتحسن الليرة السورية المرتبطة بالدولار، فتدور عجلة الإنتاج فتطبع وتنشر وتوزع فيتسنى للدار أن تساهم بالمعارض الخارجيّة هنا تكمن العلاقة العكسية التي تحمل الكتاب إلى أعلى مستوى من الإنتاج وبالتالي ترتفع نسبة طباعة الكتاب فيلقى الشهرة اللازمة بمراحله الثلاثة طباعة نشر وتوزيع، وهنا يحقق الكاتب والدار المصلحة المشتركة بهذا ختم عيسى حديثه، دون الخوض بتفاصيل الكتاب ونوعيته ومحتواه والذي برأيه قد يلعب دوراً في كسب الرهان بتجاوزه العقبات السابق ذكرها ليحجز الكتاب لنفسه مكاناً مرموقاً على رفوف المكتبات السوريّة والدولية، وهو ما نأمله في قادمات الأيام. إذا كان الورق المستورد مرتفع السعر وأصابع الاتهام موجّهة إلى تجّار الأزمات، فإن الحواجز الأمنية التي كانت منتشرة على مستوى المحافظات لم تكن بريئة، فقد لعبت دورها القاتل أيضاً، وفقاً لما ذكره مدير دار الفهد سامر الفهد في لقائه للثورة عن تأثر الدار- التي عمرها من عمر الثورة – خلال سنوات الحصار الاقتصادي والدور السياسي الذي كان مفروضاً ويعكس دوره السلبي.
على جميع مناحي الحياة، فيقول: “إن رصد حركة تنقل الكتب بين المحافظات في مرحلة التوزيع وفرض الرشوة التي بلغت المئات كانت تدفع عنوة عن سائق سيارة التوزيع لكي يصل منتج الكتاب بيسر وسهولة وأمان، أساليب أثقلت كاهلنا، فقد كنا نخصص لها ميزانيّة بوقت نعمل على طباعة الكتاب بالإمكانية المتاحة وبأحلك الظروف، وقد لامسنا فرقاً واضحاً بعد سقوط النظام البائد واستراتيجيته الفاسدة، فبعد تحرير الشام تغير كل شيء، بدءاً من تواجد المحروقات التي كانت تلعب دوراً أساسياً في إنتاج الكتب وتوزيعه، مروراً بالقضاء على الرشوة والفاسدين والتفتيش، وصولاً إلى توفر المواد الأوّلية لصناعة الكتاب من ورق وأحبار وقطع لصيانة آلات الطباعة التي كنا نعاني الأمرّين للحصول عليها، عدا عن فتح المطارات الدوليّة والتي كانت عبئاً حقيقياً لتوصيل الكتاب والمشاركة بالمعارض الدوليّة فكنّا عن طريق مستورد الكتب نتنقل من دبي إلى لبنان إلى سوريا وكأنه مكتوب على الكتاب السوري أن يدور على بساط الريح قبل أن يستقرعلى رفوف مكتباتنا المحلية!.
خبزنا اليومي
الورق كالخبز بالنسبة للمائدة وأي مكون من الطعام غيره فهو منقوص، هكذا يراه أصحاب دور النشر، وخاصة حين يكون عنوان الكتاب ملفتاً ويستوجب طباعته فهو يشجع أصحاب القرار على تخطي كل التحديات في سبيل أن يبصر النور، وعلى سبيل الذكر وليس الحصر، الكتب المترجمة، وخاصة كتب التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية هي الأكثر رواجاً وطلباً على الطباعة بحسب دار الفهد، إضافة إلى جميع صنوف المحتوى الأدبي والعلمي، ويبقى السؤال بعد كل تلك المعاناة.. متى يتشجع الكتّاب لطباعة كتبهم بعد أن بقيت حبيسة الأدراج لسنواتٍ طوال؟ وهل حقاً ستبصر مئات الكتب النور وتتنفس الصعداء بعد القيود والشروط التي كانت مفروضة عليها آنذاك..؟!.