الثورة – تحقيق جهاد اصطيف:
في حي بني زيد بمدينة حلب، لا شيء يوحي بالحياة سوى عربة خشبية مهترئة يجرها رجل أربعيني ببقايا عزيمة، كأنها امتداد لجسده المنهك.. اسمه عدنان، أما لقبه في الحي فصار معروفاً بـ”النباش”، وهو يكرهه كما يكره فقره، لكنه لا يهرب منه.. يوحي وجهه الأسمر المَشُوب بغبار الزمن، وعيناه المكسورتان أنك أمام رجل لم تهزمه الحياة، رغم أنها جعلته يحيا في حافة كل شيء، الفقر، الجوع، والكرامة.
“شغل الحاويات مو عيب” يقول عدنان بثقة مصطنعة، عله يقنعنا- وربما يقنع نفسه- أن تفتيش القمامة لا يعني السقوط، بل هو قتال يومي لأجل البقاء، “سبعة أفواه تنتظرني في البيت، هل أعود بلا خبز؟ أعمل أيّ عمل”.. هذا هو عدنان، رجل قرر أن تكون نفايات المدينة مصدر رزقه، بعد أن أغلقت الأبواب بوجهه.
في الأحياء الراقية
يبدأ عدنان رحلته فجراً، يتجه نحو الأحياء الراقية كالسريان والجلاء، فهناك- كما يقول- ترمى الأشياء التي “تؤكل وتباع”.. شاشة تلفاز شبه جديدة، قطعة نحاس، حذاء بالكاد مستخدم، “في إحدى المرات وجدت شاشة جديدة بقرب الحاوية، خبأتها في البيت بدل أن أبيعها، اعتبرتها كنزاً ذاك اليوم”.
عُدّته بسيطة عربة، كيس كبير أو أكثر، حديدة معكوفة، يتراوح مردوده بين 100 إلى 150 ألف ليرة سورية في اليوم، إذا “حالفه الحظ”، يبيع غنائمه للعم “أبو عيسى”، أحد تجار المواد المستعملة الذي يشتري منه بسعر أقل من السوق، لكنه يظل “أرحم من غيره”، على حد تعبيره.. عدنان ليس وحيداً، بل هو فرد من مشهد يومي يتكررعند كل حاوية في حلب، كبار وصغار، رجال ونساء، يتفحصون القمامة بصمت، أيديهم متسخة وعيونهم تبحث عن أي شيء، يمكن أن يباع، أو يؤكل.. في مدينة أنهكتها الحرب والعقوبات والفقر، تحولت القمامة إلى “منجم خام” لفئة مسحوقة.
مؤشر على عمق الأزمة
تعد ظاهرة “النباشين” في حلب واحدة من أبرز المؤشرات على عمق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في المدينة، فقد تَحوّل ما يفترض أن يرمى، إلى مصدر رزق لآلاف العائلات، وسط غياب شبه تام لأي سياسات اجتماعية أو برامج دعم مستدامة.
الاختصاصي الاجتماعي، حيدر السلامة، يرى أن “نبش القمامة” ليس مجرد سلوك فردي، بل ظاهرة مجتمعية تعكس هشاشة البنية الاقتصادية، وما نراه هو نتيجة مباشرة لتفكك المنظومة الاجتماعية، وغياب دور الحكومة في تأمين الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم.
وتؤكد الإحصاءات غير الرسمية أن مئات الأطفال في حلب يمارسون هذا العمل الخطير، إما بدافع إعالة الأسرة، أو بسبب الاستغلال المباشر من قبل شبكات منظمة، ومعظم هؤلاء الأطفال لم تطأ أقدامهم مدرسة قط، بل لا يعرفون حتى أعمارهم الحقيقية.
الطفولة المعذَّبة.. “لم أعد أخجل من عملي”
يقول سمير ابن الثانية عشرة سنة، وهو يجر عربته الصغيرة المحملة بقطع بلاستيكية وحديد وكرتون، ويتابع: كنت أتمنى أن أتعلم، لكن الحياة أقسى، الآن يجب أن أساعد أهلي، أكلنا من البقايا.. ويشير إلى رفيقه حامد، الطفل الذي لا يعرف عمره، لكنه نحو 9 سنوات، كما يقول سمير، لا يعرف المدرسة، ولا يحلم بأي شيء، “ما في أحلام” أجاب على سؤالنا، وهو يتابع تقليب القمامة.. مشهد الطفلين يختصر مأساة مدينة كاملة، وأمام الحاويات، تتكثف المأساة أكثر، حيث ترى نساء يبحثن عن بقايا خبز، وأطفالاً يبيعون البلاستيك بالكيلو، في ظل صمت رسمي ومجتمعي مطبق.
“المعلم”.. الوجه الخفي للمافيا
النباشون لا يعملون بمفردهم، فخلف هذا الاقتصاد العشوائي توجد شبكات تسيطر على توزيع الحاويات والنقاط الساخنة، حيث يقول العم أبو محمد، أحد سكان حي الخالدية: هناك شيء، اسمه “المعلم”، لديه مجموعة أولاد وبنات، يتم توزيعهم على أحياء محددة، ويشتري منهم البلاستيك والحديد والكرتون وسواها من علب فارغة، تمهيداً لتوضيبها وشحنها للورشات والمعامل المتعامل معها، ويرجح العم أبو محمد خلال حديثه لصحيفة الثورة وجود منظومة متكاملة تبدأ من النباش وتنتهي عند أصحاب الورش، وهؤلاء يربحون من إعادة التدوير غير المنظم، مستفيدين من عمالة الأطفال والأشخاص الهشين اجتماعياً، بينما تغيب الرقابة، وتفقد الحكومة فرصاً هائلة لإدارة النفايات بطريقة منظمة واقتصادية.
أموال تهدر.. وبيئة تتسمم
يقول أبو عيسى، صاحب متجر لشراء البلاستيك والكرتون: كل يوم يأتيني 10 إلى 15 نباشاً على الأقل، يبيعني كل واحد منهم على الأقل نحو 15 كيلو من المواد القابلة للتدوير، وتذهب هذه المواد لمعامل وورش مرخصة وغير مرخصة، بعضها يعيد تعبئة مواد استهلاكية “من عبوات مرتديلا إلى شامبو وعطور”، وبيعها في السوق، ما يشكل خطراً صحياً مضاعفاً.من جهة أخرى، تحذر خبيرة بيئية (طلبت عدم ذكر اسمها) من أن “النبش العشوائي” يسهم في خلق بؤر تلوث بيئي، إذ تنتشر “النقاط الساخنة” للتلوث حول الحاويات والمكبات، ما يؤدي إلى تسرب المواد الكيميائية إلى التربة والمياه الجوفية، ويفاقم خطر الأمراض المزمنة في الأحياء المجاورة .وتضيف: الطمر العشوائي دون تقييم بيئي يؤدي إلى تلوث المزروعات، ولاسيما تلك التي تروى بمياه جوفية ملوثة بالرشاحة الناتجة عن التحلل العضوي للنفايات.
تقصير رسمي
على الرغم من توقيع سوريا على البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل بشأن استغلال الأطفال، فإن الواقع على الأرض يتناقض تماما مع بنود هذه الاتفاقية، فالأطفال يجبرون على العمل في ظروف قاسية وخطرة، دون حماية قانونية أو صحية. ويتساءل متابعون: أين دور وزارة الشؤون الاجتماعية؟ أين برامج الحماية؟.. أين مراكز الإيواء.. ولماذا تترك الطفولة للذل والاستغلال؟ حتى الآن، لا توجد بيانات رسمية دقيقة حول عدد النباشين في حلب، أو كمية النفايات القابلة لإعادة التدوير التي تهدر يوميا بسبب غياب الإدارة المنظمة، وهو ما يعزز استنتاجات، مفادها أن بعض الجهات المستفيدة تسعى إلى إبقاء الظاهرة قائمة.
ما الذي يمكن فعله؟
لوقف نزيف الكرامة والاقتصاد معاً، لا بد من خطة وطنية لإدارة النفايات تشمل إعادة تدويرها بإشراف الجهات المعنية، وتحريم تشغيل الأطفال وتفعيل آليات الرقابة والمحاسبة، ودعم الأسر الفقيرة من خلال برامج تمكين اقتصادي، وإنشاء مراكز تأهيل وتعليم للأطفال العاملين، وتفعيل التشريعات البيئية ومراقبة المكبات العشوائية.قال عدنان، وهو ينهي حديثه معنا: لو كنت أعمل، لتركت العربة، لكن ليس أمامي غيرها، جملة تختصر معاناة آلاف مثله.
من النبش إلى الإقصاء
عدنان النباش ليس قصة عابرة، بل عنوان لمدينة تنهشها الأزمات من كل جانب، قصة تبدأ من الحاوية ولا تنتهي عند حدود النسيان، إنها رواية مجتمع يتقاسم القمامة بدل أن يتقاسم الفرص، فالنبش، حين يتحول إلى مهنة، يفقد المجتمع توازنه، وتفقد الحكومة دورها، وتفقد الطفولة معناها، وإن لم يعلن الاستنفار للحد من هذه الكارثة الأخلاقية قبل أن تكون بيئية أو صحية، فلن يكون غد عدنان مختلفاً عن اليوم، بل أكثر ظلمة ووجعاً.