الثورة – بلال بركات:
على مدى سنوات مضت، شكّلت مدينة جرابلس بريف حلب الشرقي إحدى أكثر المدن السورية عرضة للاضطرابات الأمنية، نتيجة انتشار السلاح وغياب المرجعيات الضبطية وضعف المؤسسات المحلية، إذ أنتجت هذه العوامل مجتمعة حالة من عدم الاستقرار امتدت إلى مختلف جوانب الحياة اليومية، وأثرت في السلم الأهلي، وأدت إلى تنامي النزاعات العشائرية وارتفاع معدلات الحوادث المرتبطة بالاقتتال الداخلي.
منذ تحرير المدينة عام 2016 من قبضة تنظيم “داعش”، واجهت جرابلس تحديات مركّبة، أبرزها الانفلات الأمني وتعدد القوى الحاملة للسلاح، ما جعل إدارة الشأن العام مهمة معقدة، وفي ظل ضعف المؤسسات التي كانت قائمة آنذاك، بقيت المدينة عرضة لتجدّد التوترات وعودة مظاهر الفوضى، الأمر الذي انعكس على حركة السكان، وعمّق شعوراً بعدم الثقة في قدرة الجهات الرسمية على فرض القانون.
كان كثيرون يتجنبون الخروج ليلاً، وشهدت المدينة حالات هجرة، لا سيما من النازحين، ودارت أقسى المواجهات بين عشيرتي “الجيسات” و”الدكارات”، التي كانت تتكرر بشكل دوري وتتسبب بتعطيل الحياة، وسقط خلالها ضحايا من أطفال ونساء ورجال، كما استُهدفت جنائز ومركبات إسعاف.
ومع دخول الإدارة الجديدة مطلع عام 2025، بدأت مرحلة مختلفة قوامها إعادة بناء المنظومة الأمنية وتنظيم حمل السلاح، عبر إجراءات هدفت إلى توحيد المرجعيات وإعادة الاعتبار لعمل الشرطة والقضاء، وقد جاءت هذه الخطوات ضمن خطة أوسع لفرض الاستقرار وضبط النزاعات، ما أدى تدريجياً إلى تحسّن ملموس في مستوى الأمن داخل المدينة.
التحديات الأمنية
أكد مدير منطقة جرابلس ياسر عبدو في تصريح لصحيفة “الثورة” أن الإدارة واجهت تحديات معقدة أبرزها: تعدد الجهات الحاملة للسلاح، غياب المرجعية الأمنية الموحّدة، انتشار السلاح العشوائي، حوادث الاقتتال العشائري، نشاط خلايا إرهابية نائمة، شبكات تجارة المخدرات، إضافة إلى عبء السجن المركزي السابق ونقاط الاحتجاز غير المنضبطة، كما شكّل استعادة ثقة الأهالي تحدياً محورياً في بداية العمل.
وبادرت الإدارة الجديدة إلى خطة شاملة لخّصها ياسر عبدو، حيث تضمنت هيكلة وتوحيد الأجهزة الأمنية، وإقامة غرف عمليات مشتركة، إلى جانب حملات لضبط السلاح غير المرخّص وملاحقة المتورطين في الاقتتال وتجار المخدرات.
كما شملت الخطة إغلاق وإعادة تنظيم السجن المركزي، وهيكلة مراكز الاحتجاز، مع تركيب كاميرات مراقبة وربطها بغرف العمليات، وتحسين الإضاءة العامة في الطرق والأحياء، ولم تغفل الإدارة تشكيل لجان صلح محلية تحت إشراف أمني ومدني، إضافة إلى تكثيف العمل الاستخباراتي والتوعوي لمواجهة الخلايا الإرهابية، وقد أسفرت هذه الإجراءات عن تقليص مظاهر الفوضى وخلق بيئة أكثر أماناً لعودة الحياة الطبيعية تدريجياً.
تعاون الأهالي
أظهر سكان مدينة جرابلس المتعطشون للأمان تجاوباً ملحوظاً مع الجهات الرسمية، حيث ساهموا بتقديم معلومات حيوية عن تحركات مشبوهة، وشاركوا في مبادرات ضبط السلاح وحضور جلسات الصلح، وكان هذا التعاون محورياً في تسريع القبض على المتورطين وضبط الأمن، ويمكن القول: إن شراكة المجتمع مع المؤسسة الأمنية كانت من أبرز عوامل تثبيت الأمن وفرض القانون بفعالية، وفق عبدو.
من جهته، شدد رئيس مجلس القبائل والعشائر في جرابلس وريفها حلمي عبد الرحمن في تصريح لصحيفة “الثورة” على أن لجنة الصلح التي يرأسها، والتي تشكلت منتصف عام 2025 بالتنسيق مع إدارة المنطقة، لعبت دوراً محورياً في تعزيز المصالحة وحل النزاعات، حيث تمكنت اللجنة، التي تضم نخبة من وجهاء وأعيان المدينة، من حل 25 قضية موثقة وأكثر من 70 قضية شفوية، ما انعكس إيجاباً على السلم الأهلي.
وقال أبو يحيى، وهو أحد وجهاء العشائر: “كنا نخسر أبناءنا في نزاعات لا معنى لها، اليوم، بفضل الإدارة الجديدة، أصبحنا نجتمع حول طاولة الصلح بدل أن نلتقي في ساحات القتال”.
بدورها قالت المعلمة نور الهدى: “في الماضي، كان الخوف يرافقنا ونحن نذهب إلى المدرسة، الآن أرى الأطفال يضحكون ويلعبون بلا خوف، وهذا أكبر دليل على أن الأمن عاد فعلاً”.
وعن الاحتفال بالمناسبات، قال حمد الجاسم، وهو شاب من أبناء جرابلس: “كنا نحتفل بالأعراس بإطلاق النار، أما اليوم فنحتفل بالأهازيج، وهذا أجمل بكثير”.
انعكاسات وحوادث متفرقة في طريق الاستقرار
شهدت مرحلة انتقال جرابلس من الفوضى إلى الاستقرار عدة حوادث، كان من بينها مقتل الملازم محمد كولكو في شهر أيار، ودهوم الأمين في حزيران، وإبراهيم والي في تشرين الأول، وحسام المرعي في شهر تشرين الثاني الجاري، وهي وقائع عكست حجم التحديات الأمنية التي واجهتها المدينة.
لكن في الوقت ذاته، أنتج الواقع الجديد خلال الفترة الأخيرة حالة من الاستقرار الأمني التي بدأت تتكرّس تدريجياً داخل المدينة، فعلى المستوى الاجتماعي، برز تراجع ملحوظ في النزاعات العشائرية التي كانت تشكل أحد أبرز مظاهر التوتر في السابق، بالتزامن مع صعود مبادرات أهلية ولجان صلح أسهمت في تخفيف حدّة الخلافات وتعزيز السلم المجتمعي.
اقتصادياً، أدى تحسّن الوضع الأمني إلى زيادة الثقة بالاستثمار المحلي وعودة عدد من الأنشطة التجارية إلى العمل بصورة أكثر انتظاماً، كما شجع استقرار البيئة العامة على توسيع بعض المشاريع القائمة وإطلاق مبادرات اقتصادية صغيرة، مستفيدة من انحسار المخاطر المرتبطة بالفوضى الأمنية السابقة.
أما على الصعيد التعليمي، فقد انعكس الاستقرار على انتظام الدوام المدرسي وعودة الطلاب إلى صفوفهم في بيئة أقل توتراً وأكثر أماناً، وأسهمت الإجراءات التنظيمية في ضمان استقرار العملية التعليمية، ما أتاح للمدارس أداء دورها بعيداً عن تأثيرات النزاعات أو الاضطرابات.
وفي الجانب الثقافي والاجتماعي، شهدت المدينة تغيراً في طبيعة المناسبات العامة، حيث تراجعت المظاهر المسلحة التي كانت ترافق الاحتفالات، لتحل مكانها أنماط أكثر حضارية كالفعاليات الشعبية والفنون التراثية.
ختاماً، تبدو جرابلس اليوم في مرحلة انتقالية تعكس قدرة الإدارة المحلية والسكان على إعادة تشكيل واقعهم بعد سنوات طويلة من الفوضى، فحالة الاستقرار لم تكن مجرد نتيجة لإجراءات أمنية، بل حصيلة تعاون بين المؤسسات والأهالي، وإرادة جماعية لتجاوز الماضي.