ما دلالات فتح السفارة الصينية بدمشق؟ سوريا والصين.. عودة دبلوماسية لمرحلة جديدة كلياً

الثورة – نيفين أحمد:

تبدو دمشق وبكين اليوم أمام لحظة مفصلية تعيد رسم ملامح العلاقة بين البلدين بعد أكثر من ثلاثة عشر عاماً من الفتور.

الإعلان السوري الصيني عن إعادة افتتاح السفارة الصينية في دمشق مطلع العام المقبل ترافق مع العديد من الإشارات السياسية والاقتصادية التي توحي بأن البلدين ينتقلان إلى مرحلة أوسع من التنسيق تتجاوز الشكل الدبلوماسي إلى شراكة تنموية وسياسية متكاملة.

الزيارة الأخيرة للوفد السوري برئاسة وزير الخارجية والمغتربين، أسعد الشيباني، إلى بكين وما رافقها من تصريحات لمسؤولين في وزارة الخارجية السورية تكشف أن المسار الذي بدأ قبل أشهر لم يعد مقتصراً على إعادة ترميم العلاقات، بل بات يقترب من إعادة صياغة دور الصين داخل سوريا ودورها في علاقاتها مع الشرق.

وهذا ما أكده الباحث وأستاذ كلية العلوم السياسية عاصم أبو حجيلة، إذ يرى أن الزيارة تعكس توجهاً استراتيجياً من الحكومة السورية الحالية نحو الانفتاح على شركاء كبار ليس فقط من أجل تحسين العلاقات الاقتصادية والمبادلات التجارية، بل أيضاً لتعزيز واستعادة مكانتها الدولية.

ومن جهة أخرى، تعتبر هذه العلاقة فرصة لبكين لتعزيز وجودها في الشرق الأوسط وبناء نفوذ وشبكة علاقات جديدة وفتح أسواق إضافية عبر المشاركة في إعادة إعمار سوريا واستقرارها.

وأوضح أبو حجيلة في حديثه لصحيفة “الثورة السورية”، أن هذه التطلعات تعترضها جملة من التحديات والمخاطر، تتوقف على مدى قدرة الصين على تولي دور كبير في إعادة الإعمار بالتزامن مع قدرتها على قراءة التوازنات الإقليمية والدولية.

مرحلة اقتصادية أكثر عمقاً

تسعى سوريا إلى وضع التعاون الاقتصادي في مقدمة الأولويات. فقبل عام 2011 كان حجم التبادل التجاري بين سوريا والصين يقترب من مليار ونصف المليار دولار، أي ما يعادل بين 8 و9% من موازنة الدولة آنذاك. هذا الرقم، رغم أهميته، كان جزءاً من علاقة تجارية لا تزال في بداياتها مقارنة بإمكانات الصين وقدراتها الصناعية والتكنولوجية.

اليوم، ومع دخول سوريا مرحلة إعادة الإعمار، باتت الحاجة إلى الشركات الصينية أكثر وضوحاً. ويرى مراقبون أن الصين تمتلك ما تحتاجه دمشق من خبرة في بناء البنى التحتية، ومن قدرة على التنفيذ السريع وتكلفة أقل مقارنة بالشركات الغربية.

كما أن بكين أعلنت مؤخراً بعد زيارة الوزير الشيباني، تقديم 380 مليون يوان كمساعدات للشعب السوري، وهو مؤشر على استعدادها لدخول مرحلة أكثر عمقاً اقتصادياً لا تقتصر على المساعدات، بل تتعداها إلى الاستثمار المباشر في قطاعات الزراعة والطاقة والنقل والبنية التحتية والتكنولوجيا.

وتعقيباً على ذلك، أشار أبو حجيلة إلى أن التعاون بين البلدين يسهم في إعادة الإعمار في سوريا وتعزيز الاستثمار الصيني في البنية التحتية، إضافة إلى إطلاق مشاريع مشتركة في مجالات حيوية كالطاقة والنقل وغيرها، ما يوفر لسوريا مصدراً مهماً لتمويل إعادة البناء.

وأكد الباحث السياسي مصطفى النعيمي، أن الأهمية القصوى للتفاهمات بين البلدين تكمن في أنها تنقل سوريا من مرحلة “ترقيع” ما دمرته الحرب إلى مرحلة التأسيس لاقتصاد رقمي حديث بمرجعية شرقية “صينية”، ما يمنح دمشق أدوات للصمود الاقتصادي والنمو المستقبلي بعيداً عن الهيمنة الغربية.

دمشق تعيد ضبط بوصلتها الخارجية

يأتي افتتاح السفارة الصينية ليس فقط كخطوة إجرائية، بل كبداية جديدة في السياسة الخارجية لدمشق. فالصين، بصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن، تمثل ثقلاً سياسياً لا يمكن تجاهله، خصوصاً في لحظة يسعى فيها الطرف السوري إلى إعادة بناء شبكة تحالفات دولية بعد سنوات من العزلة.

الزيارة التي قام بها وزير الخارجية والمغتربين السوري أسعد الشيباني إلى بكين، وما تلاها من تصريحات، تشير إلى رغبة مشتركة في تجاوز إرث الفتور السياسي الذي بدأ منذ إغلاق السفارة عام 2011.

ووفق ما نقل عن مدير الشؤون الصينية في وزارة الخارجية السورية أشهد صليبي، فقد اتخذ “قرار سياسي بإعادة تفعيل العلاقات”، ويرى الجانب السوري في ذلك فرصة لإعادة التوازن في علاقاته الدولية.

وفي هذا السياق، أكد أبو حجيلة أن العزلة الدولية التي عاشتها دمشق طوال عقد كامل دفعتها إلى السعي لبناء علاقات دبلوماسية مع قوى كبرى مثل الصين بعد سنوات من الانقطاع، في إطار تقارب مع قوى دولية من دون الانحياز التام إلى محور معين.

وأضاف أن التعاون مع الصين يكتسب أهمية خاصة لما يتبعه من تنسيق في مكافحة الإرهاب بمختلف أشكاله، بما يعني أنه يفتح آفاقاً جديدة في مجالات التنسيق الأمني ومكافحة الإرهاب.

الواقعية السياسية تفرض نفسها هنا؛ فسوريا تريد علاقة متوازنة مع القوى الكبرى، وإعادة فتح السفارة تأتي كخطوة عملية تؤسس لمسار سياسي أوسع قد يمتد إلى تعاون في المحافل الدولية، خصوصاً أن بكين لم تستخدم “الفيتو” مؤخراً في ملفات تتعلق بسوريا في سياق يوظف اليوم كجزء من تسويات سياسية قيد البناء.

ماذا يعني فتح السفارة الصينية الآن؟ توقيت إعادة الافتتاح يحمل دلالات تتجاوز الجانب الفني. فالصين كانت قد نقلت بعثتها من دمشق إلى بيروت في مرحلة الاضطرابات الأمنية، ولم تعد العلاقات إلى مستواها السابق طوال السنوات الماضية.

وعودة السفارة اليوم تعكس تقديراً صينياً بأن البيئة السياسية والأمنية في سوريا باتت أكثر استقراراً، وأن الظروف باتت مواتية للعودة.

كما يشير محللون إلى أن الأشهر الأخيرة شهدت اجتماعات متعددة أفضت إلى تقارب سريع توج بزيارة الشيباني إلى بكين. وقد “فتحت هذه الزيارة آفاقاً سياسية جديدة” ووضعت العلاقات على مسار “إعادة تفعيل كامل”.

وحول تداعيات ذلك، يشير المحلل السياسي عاصم أبو حجيلة إلى أن دعم مكانة الصين الجيوسياسية وتعزيز علاقاتها بسوريا يمنحانها موطئ قدم مهما في الشرق الأوسط، خاصة بعد سنوات من التوترات الإقليمية، موضحاً أن سوريا تعد جزءاً من الاستراتيجية الصينية ضمن مبادرة “الحزام والطريق” لجهة الربط اللوجستي أو الممرات الاستراتيجية.

وأضاف أن لموانئ اللاذقية وطرطوس دوراً محتملاً في هذا المسار، ومن جهة أخرى فإن تقوية العلاقات مع الصين قد تكون وسيلة لموازنة الاعتماد على قوى أخرى، وتجنب الوقوع تحت ضغط طرف واحد فقط.

بدوره، أشار الباحث والكاتب السياسي مصطفى النعيمي إلى أن سوريا تبني علاقاتها المتوازنة مع الصين انطلاقاً من المصالح المشتركة لجميع الأطراف، وبالتالي فإننا نتحدث عن ركائز أساسية في العلاقة تبدأ بالسياسة مروراً بالدبلوماسية وصولاً إلى الاقتصاد.

وقد نجحت الدبلوماسية السورية، برأيه، في بناء أرضية دولية تحدد مكانتها بوصفها مؤثرة لا متأثرة.

وحول أهمية الرؤية الجديدة وتأثيرها في مختلف القطاعات، أشار النعيمي إلى أن إعادة بناء العمود الفقري الرقمي “طريق الحرير الرقمي” يعد أحد أهم أركان هذه الرؤية، إذ يهدف إلى دمج سوريا في “طريق الحرير الرقمي” الصيني بعد تضرر شبكات الاتصالات السورية بشكل كبير خلال السنوات الماضية، حيث تأتي الشركات الصينية المختصة بالمجال لتحديث البنية التحتية.

وأضاف أن الرؤية الجديدة تشمل تعاوناً وثيقاً في مجال البرمجيات وأنظمة الإدارة الحكومية.

كيف تنظر الصين اليوم إلى سوريا؟

يرى محللون سياسيون صينيون أن زيارة الوفد السوري تبين أن الحكومة السورية الجديدة تبذل كل ما في وسعها من أجل البحث عن مخرج وكسر حالة الجمود السياسي. فبعد أن أنهى الرئيس أحمد الشرع زيارته لروسيا، توجه مباشرة إلى “البيت الأبيض” للقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب من دون أي توقف، ثم قام الوفد بزيارة بكين في محاولة لبناء علاقة جديدة مع الصين.

وبحسب موقع “أوبزرفر”، وبعد اللقاء بين الوزير الشيباني ووزير الخارجية الصيني وانغ يي في بكين بتاريخ 17 تشرين الثاني/نوفمبر، أصدر الجانبان بياناً مشتركاً.

ووجود وثيقة ذات نتائج ملموسة يشير بوضوح إلى أن المحادثات كانت إيجابية. ومن خلال محتوى البيان المشترك، يبدو أن الصين أبدت مرونة في عدد من القضايا، وفي المقابل أظهر الجانب السوري قدراً كبيراً من الجدية في القضيتين الأكثر حساسية بالنسبة للصين.

وأشار البيان إلى أن الجانبين سيتواصلان وينسقان في المنظمات والمحافل الدولية على أساس الاحترام المتبادل ومراعاة مصالح الطرفين، وسيجريان مباحثات حول التعاون في مجالات الاقتصاد والتنمية وإعادة الإعمار.

وبرغم قصر العبارات، فإن الرسالة واضحة: سوريا تحتاج إلى دعم عملية إعادة الإعمار في الداخل، والصين، بصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن وتمتلك حق النقض وأحد أبرز ممثلي “الجنوب العالمي”، تعد مفتاحاً لا يمكن تجاوزه.

وقد أبدت الصين مرونة من خلال البيان المشترك، كما أبدى الجانب السوري مواقف إيجابية تجاه أهم قضيتين بالنسبة للصين. أولاهما قضية مكافحة الإرهاب؛ فخلال زيارة الشيباني الحالية قدم تعهداً رسمياً أمام وانغ يي بأن سوريا ستكافح جميع أشكال الإرهاب، وأنها توافق على التعاون مع الصين في قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب.

أما القضية الثانية فهي قضية تايوان؛ إذ أكدت دمشق تمسكها بمبدأ “الصين الواحدة” واعترافها بأن تايوان جزء من الصين، ودعمها الكامل لجهود بكين لتحقيق الوحدة الوطنية ورفضه أي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية للصين.

واعتبر محللون صينيون أن موقف سوريا في هذا الجانب كان أكثر إيجابية من مواقف كثير من الدول، حيث أظهرت قدراً كبيراً من النية الحسنة، وهو ما كان موضع ترحيب صيني لأنه يتماشى مع مصالح الصين. ولا سيما أن الدول الغربية غالباً لا تتجاوز الالتزام بـ”سياسة الصين الواحدة” من دون الاعتراف الصريح بأن تايوان جزء من الصين، في حين أن بعض الدول مثل اليابان أصدرت مؤخراً تصريحات خطيرة حول احتمال التدخل العسكري في مضيق تايوان.

رؤية جديدة للعلاقة وتنسيق سياسي مع بكين

العلاقة المستقبلية بين بكين ودمشق لن تكون اقتصادية فقط، بل تحمل بعداً سياسياً أوضح. فدمشق لا تريد أن تواجه أي توتر مع الصين في الأمم المتحدة، والصين بدورها تبحث عن ضمانات لحماية استثماراتها ومصالحها الأمنية في المرحلة المقبلة.

هذا النهج يعكس إدراكاً سورياً بأن بكين ليست مجرد شريك اقتصادي، بل لاعب دولي يمتلك تأثيراً في ملفات العقوبات والقرارات الدولية. ولذلك فإن إعادة ترتيب العلاقات تأخذ طابعاً استراتيجياً، مع التركيز على “تصحيح المسار” بعد سنوات من الابتعاد.

في هذا الجانب، أشار الباحث عاصم أبو حجيلة إلى أن سوريا تعاني من عقوبات دولية، وأن إقامة شراكة استراتيجية مع الصين قد تفتح بعض القنوات الدبلوماسية لتجاوز العقوبات أو تخفيف آثارها عبر الاستثمار والتجارة، فضلاً عن دعمها في المحافل الدولية.

وفي السياق ذاته، يرى الباحث السياسي مصطفى النعيمي أن السياسة الخارجية السورية في علاقاتها مع المنظومة الدولية تسير بخطى راسخة نحو تحقيق أعلى المكاسب، وأن العودة ليست كما كانت في عهد النظام المخلوع.

وأشار إلى أن هذا المسار من العلاقات السياسية الخارجية مع الصين يمثل خطوة لإعادة العلاقات الدبلوماسية التي ستكون عنوان المرحلة القادمة، وستتبعها خطوات على المستوى الاقتصادي، الذي يمثل هدفاً مشتركاً لجميع الأطراف.

ويرى النعيمي أن الانطلاقة السورية تجاه الصين ستكون إيجابية وستنعكس إيجاباً على الشعبين السوري والصيني، وأن السفارة السورية في الصين بعد تأهيلها ستمثل البوابة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية لعلاقات سوريا المقبلة مع بكين.

ومن المتوقع، وفق ما يجري الحديث عنه، احتمال قيام الرئيس أحمد الشرع بزيارة إلى بكين، وهي خطوة إن تمت ستكون جزءاً من إعادة بناء العلاقات على مستوى القيادة السياسية.

لكن يشير مراقبون إلى أن الزيارة قد تتزامن مع بداية عام 2026 بعد استكمال إعادة تفعيل السفارات وترتيب الملفات السياسية والاقتصادية.

ما يجري اليوم بين دمشق وبكين بداية مسار جديد يعيد إدخال الصين إلى قلب المشهد السوري، وإعادة افتتاح السفارة تعني عمليا انطلاق مرحلة تعاون اقتصادي واسع وتثبيت شراكة سياسية متوازنة، في لحظة تبحث فيها سوريا عن داعمين قادرين على المساهمة في الإعمار، وعن شركاء دوليين يمنحونها هامشاً أكبر من الحركة.

آخر الأخبار
توسعة معبر "نصيب- جابر".. اختبار حقيقي لتعافي التجارة السورية- الأردنية رغم تراجع الكلف.. مطاعم دمشق تحافظ على أسعارها المرتفعة وتكتفي بعروض "شكلية" رماد بركان إثيوبيا يعرقل حركة الطيران ويؤدي إلى إلغاء رحلات جوية الليرة تحت وطأة التثبيت الرسمي وضغوط السوق الموازية تحرك سريع يعالج تلوث المياه في كفرسوسة ويعيد الأمان المائي للسكان "اتفاقية تاريخية" لتطوير مطار دمشق.. رسائل الاستثمار والتحول الاقتصادي أردوغان يطرح التعاون مع كوريا الجنوبية لإعادة إعمار سوريا السيدة الأولى تمثل سوريا في قمة "وايز" 2025..  خطوة نحو تعزيز التعاون الدولي وتنمية التعليم خط السابع من ديسمبر 2024.. فاصل يحدد مسار العلاقات السورية الإسرائيلية وزير الأوقاف يلتقي وزير العمل البرازيلي والجاليات الإسلامية في أميركا اللاتينية التقنية والطاقة والدفاع: سوريا تسعى للاستفادة من "القوة الصناعية الهادئة" في السويد الأمن الداخلي يفكك خلية لـ "داعش" في عفرين ويواصل ضرب شبكات التنظيم في المحافظات حين ينتصر منطق الفزعة.. ينهزم مفهوم الدولة بين فخ "فيدرالية عبدي" وذاكرة الحولة: هل يلدغ السوريون من جحر الطائفية مرتين؟ مساع لحماية المنتج الوطني وتنظيم السوق عبر البطاقة التعريفية نبع الغرزية في طرطوس يتحوّل من شريان حياة إلى مصدر خطر الأمن السوري يسبق "داعش" بخطوة: كشف مبكر في منطقة حساسة تحت أنظار الروس الأردن يحذر: سوريا تتجه لإعادة البناء.. وإسرائيل تتدخل بطريقة هدامة تهدد استقرار المنطقة اللجنة الوطنية للاستيراد والتصدير.. الدور المرتقب والتحديات ما دلالات فتح السفارة الصينية بدمشق؟ سوريا والصين.. عودة دبلوماسية لمرحلة جديدة كلياً