سلطان الكنج:
تُظهر نظريات الهوية الاجتماعية، لا سيما أعمال هنري تاجفِل، أن الإنسان لا يعرّف نفسه كفرد مستقل، بل كعضو في جماعة.
وحين تضعف الدولة أو تتراجع قدرتها على فرض القانون، يتقدّم الانتماء إلى الجماعة على الانتماء الوطني، وتتحول الهوية الفرعية، طائفية، مذهبية، عشائرية، مناطقية أو حزبية، إلى منظار يرى الفرد الآخرين من خلاله.
في هذه اللحظة يبدأ ما يسمّيه علماء الاجتماع “التمحور الهوياتي” أي أن تصبح الجماعة مركز الحياة السياسية والاجتماعية، بينما تتراجع الدولة إلى الهامش.
هذا التمحور لا يحدث في الفراغ، بل يرافقه صعود ما يمكن وصفه بـ”منطق الفزعة”، فالفرد في المجتمعات التي تغيب أو تُغيب فيها الدولة يلجأ تلقائياً إلى جماعته لتأمين الحماية أو استعادة الحق أو فرض النفوذ، ومع تكرار هذا السلوك يتحول الأمر من رد فعل إلى عقلية عامة، وتصبح الجماعة بديلة عن الدولة وممثلة عنها، بل أحياناً أعلى منها.
هنا يتحقق ما تحذر منه نظريات علم النفس الاجتماعي: حين تقوى الهوية الفرعية، تذوب الهوية الوطنية، وتفقد الدولة شرعيتها.
إن منطق الفزعة لا يهدّد الدولة فحسب، بل يُقوّض مفهوم الدولة من جذوره، فحين تحتكم الجماعات بكل أشكالها، دينية كانت أم مذهبية أم مناطقية أم عشائرية، إلى الفزعة، فإنها تسعى عملياً إلى أن تحلّ محل الدولة.
تصبح الجماعة هي “النظارة” التي ترى من خلالها بقية الجماعات، وتغدو الهوية الفرعية هي معيار الحكم والانحياز وبوابة الدخول والخروج من أي علاقة اجتماعية أو سياسية.
هذه العقلية تدفع كل الهويات إلى الالتفاف حول نفسها وإعادة إنتاج رموزها وسردياتها التاريخية، في محاولة لاستحضار ماض يمنحها شرعية وقوة و”قصة تلتف حولها”.
وهكذا ينشأ شعور جماعي بأن الدولة ليست ضرورة، بل مجرد أداة في نظر طرف تخدم سرديته، أو عدو في نظر طرف آخر.
ومع إضعاف مفهوم الدولة وتغييبه، يتحوّل الانتماء إلى الجماعة إلى بديل عن الانتماء الوطني، وتصبح السرديات القديمة أقوى من أي مشروع دولة.
لكن ما لا يدركه من يفكّر بعقلية الفزعة أنه سيكون هو نفسه أول المتضررين، فإذا كان يلجأ إلى جماعته، فإن الجماعات الأخرى بدورها ستلجأ إلى فزعاتها، وستتمحور حول هوياتها، وستستخدم سردياتها ورموزها لتبرير مواقفها.
وهكذا يدخل الجميع في دائرة مغلقة من الشك والتوجس والخصومة، إذ يشعر كل طرف بأنه مهدّد، فتضعف الدولة أكثر ويقوى منطق الصراع.
ولو نظرنا إلى تجارب البلدان القريبة من سوريا لوجدنا أن الدرس واضح.
ففي لبنان، بعد الحرب الأهلية، احتكم الجميع إلى طوائفهم وهوياتهم، وتمحوروا حولها، فذابت الدولة تدريجياً وفقدت وظيفتها الأساسية: أن تكون مؤسسة تعادل بين الناس وتحفظ حقوقهم، وحتى اليوم، رغم المستوى الثقافي للبنان، لا يزال عاجزاً عن بناء دولة حديثة لأن عقلية الفزعات الطائفية لا تزال أقوى من القانون.
أما العراق، فبعد سقوط نظام صدام حسين، نهشت عقلية الفزعة المجتمع بكل مكوّناته، احتكمت الجماعات إلى هوياتها القومية والمذهبية، ونظرت إلى الآخر من خلالها، فانقسم المجتمع على خطوط حادة، ومع أن العراق يمتلك مقومات مادية وبشرية هائلة، نفط، ثروات، جامعات، موارد مياه، وإرثاً حضارياً يمتد إلى آلاف السنين، إلا أن محاولته لبناء دولة حديثة اصطدمت بجدار الهويات المتصارعة.
وهنا المفارقة المؤلمة: بلاد الرافدين، مهد المدنية الأولى، إذ نشأت أور وأوروك وظهرت أول مدينة سياسية في التاريخ، لا تزال حتى اليوم عاجزة عن استعادة جزء من تلك الروح بسبب ضغط الهويات الضيقة التي التهمت الدولة.
إن منطق الفزعة، حين يسود، لا يُعيد المجتمع إلى الخلف فحسب، بل يُسدّد ضربة مزدوجة: فهو يهدم الدولة، ثم يجعل كل جماعة تعيش في خوف دائم من جماعات أخرى تعتمد المنطق نفسه، والنتيجة أن الجميع يخسر، والدولة تتفكك، والمجتمع يتراجع إلى منطق الغابة حيث قانون القوة يحكم كل شيء.
إن غياب العدالة الانتقالية أو تأخرها يفتح الباب واسعاً أمام عودة منطق الثأر الفردي، إذ يشعر المظلوم أن الدولة غير قادرة أو لا تريد إنصافه، فيلجأ إلى استرداد حقه بيده.
ومع تراكم هذه الحالات، يتراجع الإيمان بمفهوم الدولة وتتآكل الثقة بمؤسساتها، لأن الفرد المكلوم يصبح هو القاضي والمنفّذ في آن واحد، فتسود عقلية الانتقام على حساب القانون والعدالة.
لذلك، فإن السوريين اليوم أمام واجب تاريخيّ لا يمكن تأجيله: إعادة بناء الثقة بالدولة بوصفها الإطار الجامع، والفضاء الوحيد القادر على تنظيم الحياة المشتركة، وضمان الحقوق وحماية الضعفاء من منطق الفزعات والولاءات الضيقة.
إن تعزيز مفهوم الدولة ليس رفاهية فكرية ولا شعارا سياسياً، بل شرط بقاء، وضمان لمستقبل لا يعود فيه السوري إلى قبيلته أو حارته، أو طائفته، ليبحث عن حماية أو عدالة هي مهمة الدولة التي ينبغي أن توفرها له.
إن بناء الدولة يبدأ من وعي المجتمع نفسه بدوره ومسؤوليته؛ فالمجتمعات هي التي تصنع دولها، وهي أيضاً التي تهدمها حين تتخلى عن فكرة المواطنة وتسمح للهويات الفرعية بابتلاع الهوية الجامعة.
ومن هنا، يجب على السوريين أن يسعوا جاهدين لتعزيز مفهوم الدولة، والاحتكام لسلطتها، والاحتماء بقوانينها ومؤسساتها، لأن كل بديل آخر يعني العودة إلى زمن التشظي، إذ لا رابطة تعلو على رابطة الدم، ولا قانون يعلو على قوة الجماعة.