بقلم: ضياء قدور- كاتب وباحث سوري:
في لحظة فارقة من تاريخنا السوري المثقل بالجراح، وبينما تتجه الأنظار نحو الساحل السوري، إذ تعلو أصوات في اللاذقية وطرطوس تطالب بحقوق مشروعة تارة، وتجنح نحو طروحات سياسية “ملغومة” تارة أخرى، نجد أنفسنا ملزمين أخلاقياً ووطنياً بتفكيك المشهد.
إن الكتابة اليوم ليست ترفاً، بل هي محاولة لرأب الصدع قبل أن يتحول إلى خندق يقسم ما تبقى من الخريطة.
إننا نكتب اليوم عن الحريات كركيزة للدولة التي نحلم بترسيخها، وعن سيادة القانون، ولكن – وهذا هو الأهم – نكتب عن وحدة المصير التي يهددها “وهم” الحلول المستوردة أو المعلبة في أقبية المشروعات الانفصالية.
لعل المفارقة الأكثر إيلاماً، ونحن نتابع حراك البعض في الساحل اليوم، هي غياب “الهوية الجامعة”.
يوجع القلب، وبصدق، ألا نسمع هتافاً وطنياً سورياً واحداً يوحد الجغرافيا كما فعل أجدادنا، وكما فعل شباب سوريا في أيامهم الأولى.
يبدو المشهد وكأن المتظاهرين حرصوا – بوعي أو بدونه – على تقديم أنفسهم كجماعة طائفية مغلقة، تتماهى مع خطاب سياسي جرى تلقينه بعناية فائقة.
هذا الخطاب لا يشبه السوريين في شيء، بل يشبه أجندات أطراف بات الجميع يعرف أهدافها وغاياتها في تمزيق النسيج السوري.
وهنا يجب أن نضع الإصبع على الجرح بلا مواربة: إن ارتفاع نبرة المطالبة بالفيدرالية أو الحكم الذاتي في الساحل اليوم، ليس حدثاً معزولاً، ولا يمكن قراءته بسذاجة على أنه مجرد رد فعل معيشي.
إن ما يجري هو استجابة غير مباشرة، وربما منسقة، لأماني مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، الذي صرّح علانية قبل أيام برغبته في توسيع مشروعه الفيدرالي ليشمل الأقليات كالعلويين والدروز.
من يطالب بالفيدرالية اليوم في الساحل، إنما يطبق “مخطط عبدي” بحذافيره.
إن هذا التماهي يمنح “قسد” ورقة تفاوضية مجانية لرفع سقف مطالبها أمام دمشق، وكأن لسان حالهم يقول: “لسنا وحدنا من يريد التقسيم”.
إن المطالبة بتحديد شكل الحكم، سواء كان فيدرالياً أو لامركزياً، هي حق أصيل للشعب السوري برمته، ولكن هذا الحق يمارس عبر صناديق الاقتراع، وعبر ممثلي الشعب في المؤسسات الوطنية والدستورية بعد استقرار البلاد، وليس عبر فرض أمر واقع يستجيب لنزوات أمراء الحرب ومشروعات الانفصال.
وفي سياق التحليل الاستراتيجي، لا يمكننا تجاهل “اتفاق 10 مارس”، والذي يُعد أحد أهم بنوده امتناع “قسد” عن التعاون والتنسيق مع ما يمكن تسميته بـ “الفلول” أو التيارات الساعية لزعزعة استقرار الدولة المركزية.
إن أي تنسيق خفي أو تقاطع مصالح بين دعاة الفيدرالية في الساحل وبين مشروع “قسد”، يمكن لدمشق – وبحق – أن تعتبره انتهاكاً خطيراً لهذا الاتفاق، ما يمنحها الحق في التصرف وفق مقتضيات السيادة الوطنية.
إن اللعب على وتر الأقليات لضرب وحدة الدولة هو لعبة خطرة ستحرق أصابع من يشعلها أولاً.
وعودة إلى الذاكرة، التي يبدو أن البعض قد أصابه الزهايمر السياسي تجاهها، أتذكر اليوم بمرارة وحنين، كيف أن أحرار سوريا عندما غامروا بحياتهم وخرجوا في ثورتهم بآذار 2011، كانت حناجرهم تصدح بشعارات هزت وجدان العالم: “الله، سوريا، حرية وبس”، و”واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد”، تلك كانت بوصلة الوطن قبل أن تتلوث بالأجندات.
فذكر إن نفعت الذكرى! أين تلك الروح اليوم ممن يخرجون لتقزيم سوريا إلى كانتونات طائفية؟
إن حماية من يتظاهر سلمياً هو واجب مقدس على الدولة، ودليل دامغ على ثقة سلطاتها بالاستقرار وقوتها في استيعاب أبنائها.
نحن نريدها دولة ثورة وحريات حقيقية، دولة قانون ومؤسسات، وندعمها بكل جوارحنا ما دامت كذلك، ولكن، الحرية لا تعني الفوضى، والديمقراطية لا تعني التقسيم.
نأمل أن يستفيق السوريون من “وهم طوائفهم”، وأن يدركوا أن المظلة الوحيدة التي تقيهم حروب الإلغاء هي “الدولة الوطنية” وصوت الوطن الذي يتسع للجميع.
ولا بد هنا من التعريج على ما حدث في مدينة حمص قبل أيام، ذلك الحادث البشع والطائفي الذي كان الهدف الواضح منه استجرار ردود فعل غريزية وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
إن غالبية السوريين اليوم، المنهكين من الحرب والفقر، يريدون نسيان الماضي وفتح صفحة جديدة، صفحة بيضاء لا تلطخها دماء الثأر.
وهنا، اسمحوا لي أن أتحدث بصفتي الشخصية، كأحد أبناء منطقة “الحولة”.
نعم، أنا ابن تلك المنطقة التي تعرضت لمجزرة بشعة في بداية الأحداث، مجزرة كانت طائفية بامتياز، وكانت جزءاً من مخططات شيطانية لإيقاع الفتنة وشرخ المجتمع السوري.
ورغم الألم الذي لا يزال يعتصر قلبي، ورغم دماء الأهل التي سالت، أقولها بملء الفم: حمص لن تكون بوابة للفتنة.
بصفتي شاهداً على الوجع، أرفض أن يتاجر أحد بآلامنا لتبرير مشروعات مشبوهة.
لن نسمح للانفصاليين والأعداء أن يكتبوا تاريخ تقسيم سوريا بحبر من دماء السوريين.
إن الرد على المظلومية لا يكون بتدمير الوطن، بل بالتمسك به أكثر.
إن تجاوزنا لآلام الماضي ليس ضعفاً، بل هو قمة القوة والوطنية لقطع الطريق على من يريد تحويل سوريا إلى دويلات متناحرة.
ختاماً، إن مستقبل البلاد يحدده السوريون وحدهم، في ظل دولة قوية، عادلة، وموحدة.
الدولة هي الحاضنة، والقانون هو الحكم، أما تلك الأصوات النشاز التي تعزف على أوتار الغرائز المذهبية وتلتقي مصالحها مع مشروعات تفتيت المنطقة، فهي فقاعات ستتلاشى أمام صخرة الوعي السوري.
لنتعلم من دروس السنوات العجاف، ولنحذر من أن نكون وقوداً لمعارك الآخرين على أرضنا.
سوريا واحدة، وستبقى واحدة، بإرادة أبنائها الشرفاء، من شمالها إلى جنوبها، ومن ساحلها إلى باديتها.