الثورة – أحمد العكلة:
تزخر مناطق في الشمال السوري بكنوز أثرية تعود إلى العصور الرومانية والبيزنطية، مثل قرى شنشراح وسرجيلا ومدينة إيبلا الأثرية، التي كانت وجهة سياحية بارزة قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، لكن هذه المواقع تحوّلت إلى ساحات قتال خلال الحرب، حيث تمّ زرع آلاف الألغام على خطوط التماس من قبل النظام المخلوع، مما جعل الوصول إليها شبه مستحيل.
تحتضن محافظة إدلب عدداً من المواقع الأثرية، فيما تضم محافظة حلب قلعتها الشهيرة ومعبد عين دارة، غير أن الفقر والفراغ الأمني فاقما هشاشة هذه المواقع خلال السنوات الماضية، إذ باتت عرضة للنهب وتهريب القطع الأثرية وبيعها في السوق السوداء، ما يهدد بضياع إرث حضاري ذي قيمة عالمية لا يمكن تعويضها.
جهود إزالة الألغام ما زالت محدودة بسبب نقص التمويل والخبرات، بينما تستمر المجتمعات المحلية والمنظمات الدولية في المطالبة بحماية هذه المواقع.
حماية المواقع الأثرية ضرورة استراتيجية
يؤكد الباحث الأثري حمزة اليحيى، المتخصص في التراث الروماني والبيزنطي، لصحيفة “الثورة” أن حماية المواقع الأثرية في إدلب باتت ضرورة استراتيجية لإعادة ترميم الهوية السورية بعد الحرب، وينطلق اليحيى في رؤيته من معرفته المباشرة بهذه القرى التي نشأ فيها، مشدداً على أن تاريخ شنشراح وسرجيلا يتجاوز الألفي عام، ويختزن آثاراً فسيفسائية فريدة تعكس تفاعل حضارات متعددة مع المنطقة.
ويشير اليحيى إلى أن هذه المواقع تواجه اليوم تهديدين متوازيين؛ الأول ناجم عن عمليات النهب ما أدى إلى تهريب آلاف القطع الأثرية إلى الأسواق السوداء، أما التهديد الثاني فيتمثل في الألغام المنتشرة بكثافة داخل محيط المواقع، والتي جعلت الوصول إليها محفوفاً بالموت، حيث أودت هذه المتفجرات بحياة عشرات المدنيين في السنوات الأخيرة، بينهم أطفال كانوا يلهون قرب بقايا الكنائس.
ويرى اليحيى أن إنقاذ التراث يتطلب استراتيجية طويلة الأمد تشمل التعاون مع منظمة اليونسكو لتوثيق الأضرار واستعادة المنهوبات، إلى جانب برامج تدريب محلية لإزالة الألغام بالشراكة مع منظمات دولية متخصصة، إضافة إلى إشراك المجتمعات المحلية في حماية هذه المواقع، وتخصيص ميزانية حكومية عاجلة لترميمها قبل أن تتعرض لمزيد من التدمير.
وتقترن هذه الدعوات مع إعلان المديرية العامة للآثار والمتاحف عن استراتيجيتها الممتدة بين 2025 و2035، والتي تهدف إلى إدارة أفضل للمواقع الأثرية ودعم المتاحف وإعادة الكوادر المتخصصة إلى العمل.
من جهته، يقدّم المواطن أحمد الخالد، فلاح من ريف إدلب الجنوبي وأحد الناجين من انفجار لغم، شهادة تعكس حجم الخطر الذي يواجه السكان في حياتهم اليومية، فقد عاش الخالد لسنوات قريبة من المواقع الأثرية في شنشراح وسرجيلا التي كانت مقصداً سياحياً قبل الحرب، لكنّها تحوّلت لاحقاً إلى مناطق محظورة نتيجة انتشار آلاف الألغام على خطوط التماس السابقة.
وتروي تجربته أن تلك الألغام كانت السبب في فقدانه ساقه اليسرى عام 2024 أثناء عمله قرب بقايا كنيسة في سرجيلا، كما فقد ابن عمه حياته الشهر الماضي في انفجار آخر، وتكشف شهادته عن واقع مرير تعيشه المنطقة، إذ لا تفرّق الألغام بين فلاح وراع وطفل.
وبحسب ما أكد الخالد لصحيفة “الثورة”، فإنه لا يقف الخطر عند الألغام، فالفقر يدفع العديد من السكان إلى التنقيب غير الشرعي بحثاً عن لقمة العيش، ما يشكّل تهديداً مباشراً للتراث المتبقي في تلك القرى، مضيفاً أن دعم المجتمعات المحلية اقتصادياً يمكن أن يحدّ من هذه الظاهرة ويحوّل المواقع الأثرية إلى مصدر رزق مستدام عبر مشاريع السياحة الثقافية.
كما يدعو إلى تدخل دولي عاجل لإزالة الألغام، وإلى دور فاعل لليونسكو والإنتربول في استعادة الآثار المهربة، إضافة إلى تطبيق صارم لقوانين حماية التراث السوري.
وتسلط شهادته الضوء على المبادرات المحلية التي تسعى لتوثيق الأضرار، مثل حملة “تراثك حياتك”، التي تبذل جهوداً مهمة لكنها لا تزال بحاجة إلى دعم أكبر لمواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية التي تعيق الحفاظ على المواقع الأثرية في جبل الزاوية.
انتهاكات وتهريب منظّم
في حديث لصحيفة “الثورة” كشف الباحث ومدير مركز آثار إدلب أيمن النابو عن انتهاكات واسعة طالت المواقع الأثرية، متهماً الأجهزة الأمنية والمليشيات التابعة للنظام المخلوع بتنفيذ عمليات تهريب منظمة سابقاً، ومشيراً إلى ضعف أداء المديرية العامة للآثار والمتاحف.
وأوضح أن حماية المواقع قبل الثورة كانت تعتمد على الأجهزة الأمنية وليس المؤسسات الثقافية، ما أدى إلى مركزية مفرطة وغياب الرؤية المهنية، وبعد الثورة، تحوّلت تلك الأجهزة إلى مليشيات تعنى بتهريب الآثار تحت أنظار المديرية، التي فقدت صلاحياتها، باستثناء بعض مراكز المدن الكبرى حيث يمكن إثارة الإعلام.
وأشار النابو إلى أن المواقع ذات الشهرة العالمية فقط حظيت باهتمام رسمي، في حين تُركت آلاف المواقع، ولا سيما الطينية أو العائدة لفترات الشرق القديم، عرضة للإهمال والنهب، إذ كشف عن سرقات طالت متاحف حماة وتدمر والرقة، حيث وصلت بعض القطع إلى إدلب ولبنان وحتى متاحف في تل أبيب.
وأكد أن تهريب كلّ قطعة يعني فقدان جزء من الهوية الوطنية، وأن التنقيبات العشوائية أفرزت مكتشفات مهمة لكنّها نُهبت من دون توثيق علمي.
ورغم الجهود المتفرقة التي تبذلها المبادرات المحلية وبعض المنظمات الدولية، تبدو تلك التحركات غير كافية، ما يستدعي وضع رؤية استراتيجية تتشارك فيها الجهات الرسمية والمجتمعات المحلية والمنظمات الدولية، تقوم على حماية المواقع الأثرية، وتطوير برامج تدريب لفرق وطنية قادرة على إزالة الألغام، إضافة إلى إطلاق مشاريع اقتصادية واجتماعية تقلل من دوافع نهب الآثار.