ثورة أون لاين – ديب علي حسن:
من جماليات اللغة العربية، وحسن بلاغتها أنها قادرة على خلق الوهم الجميل، ودفع روح التفاؤل قدماً ومن المعروف أن الاستعارة لون من أجمل ألوان بلاغتها ناهيك عن التشبيه والكناية، وما تفتقت البلاغة عنه،
ومن حسن حظ الكثيرين من مسؤولينا هذه الأيام أن بعضهم قد اطلع على مثل هذه الألوان، فعمل على استعمالها، وهذا لم يكن عيباً حين كانت العرب تقول: المفازة، رمزا للصحراء، تيمناً بمن يعبرها إذا ما وصل إلى نهاية المطاف فيها سليماً، بينما في الحقيقة هي مهلكة.
وكانوا يقولون: السليم، لمن لسعته، لدغته، أفعى أو عقرب، أيضا تيمناً بالشفاء، لكن هيهات أن يكون ذلك، بكل الأحوال، كان الحطيئة أيضاً عبقرياً عندما استخدم اسم الفاعل مكان اسم المفعول عندما هجا أحدهم وقال له: فأنت الطاعم الكاسي، بمعنى (المطعم المكسو)، أي من يعتمد في طعامه وملبسه على ما يقدمه الآخرون له، ولئلا نذهب بعيداً ونرهق مسؤولينا البلاغيين إذا ما كان أحد منهم يكلف نفسه عناء قراءة حال وأحوال الناس، همنا، حياتنا، آلامنا، ما لنا وما علينا، ويقف عندها لحظة ما، حتى لا نرهقهم بفعل ذلك، وبعضهم منكب ليلاً نهاراً على العمل من أجلنا، لا تراه يجد لحظة ما ليقف أمام عدسات التلفزة ليصرح بشيء ما، وهم الذين كانوا ما يعودون صيفاً من الساحل، حتى يلفوا عائدين إليه، لا لشيء، لا سمح الله ليس سياحة، ولا اصطيافاً، إنما شغف وحب للعمل، ولتكن نشرات الأخبار لهم.
وقد خمدوا الآن لأن الأمر تغير، حتى لا نرهقهم بالبحث عن كلمات غيرت معانيها، أو تشي بغير معنى، في حلب يقولون عن السرطان (هداك المرض) لأن الاعتقاد ما زال قائماً أن ذكر الشيء يعني استحضاره، وقياساً على هذا تفتقت عبقريات المسؤولين (بعضهم) عن فكرة اللعب على اللغة، يطل علينا مدير، معاون وزير (يكفي لهنا) ويقول: لا ارتفاع على الأسعار: الأمر تعديل، ليس ارتفاعاً وقس على ذلك، تعديل يطولك كل ساعة، النغمة الجديدة التي خرج بها علينا مسؤول رفيع في وزارة الصحة منذ أيام بتصريح لصحيفة محلية نافياً أي ارتفاع لأسعار الدواء: لا ارتفاع إنما تسوية، يالله، كم نحن الشعب بُلهاء، لا نفرق بين التسوية والارتفاع، وجاءت بلاغة المسؤول لتصحح المصطلح، وليكون الاطمئنان: لن تدفعوا شيئاً فقط تسوية؟؟؟
نعم، تسوية، كل من يراقب أسعار الدواء، وأنا منهم يفاجأ كل أسبوع بزيادة، عفواً تسوية، سعر قديم يشطب بخط اليد ويدون السعر الجديد، عشرات المرات ارتفعت أسعارها، في المرات الماضية كان المسوغ فرق الصرف، ان هذا الارتفاع سيكون محققاً لاستمراريتها، وبعدها كل شهر ( تعديل، تسوية…).
الحجة أن معامل الأدوية خاسرة، معقول في سورية من يخسر من أجلنا، حرام: التاجر يخسر، الصناعي، كلهم يخسرون من أجلنا نحن الشعب الثري، وحدنا الرابحون، ويضيف المسؤول الصحي: جهات عالمية أبدت دهشتها لانخفاض سعر الدواء عندنا؟
بالله عليك، لماذا لم تبد دهشتها لبلاغتك، وبلاغة الصمت التي تلف الجهات الرقابية، لا أحد يدفع الثمن إلا الفقراء، والتسوية الحقة أن يحاسب من يظن أنه عبقري يستغبي الناس، التسوية الكبرى أن نرى يد المحاسبة طالت الجميع، ولا بأس أن ينقص الربح قليلاً، كذبة القرن الكبرى أن تجارنا يخسرون… ببساطة: خسارتهم أن كل واحد منهم يضع رقماً فلكياً لربحه، فإذا لم يتحقق الربح كاملاً يعد الأمر خسارة من الربح… الأمر تسوية ننتظرها.