ربما لم تدخل الإدارات الأميركية المتعاقبة مرحلة من الاشتباك الدولي، والتغيّر المتسارع في التوازنات العالمية والإقليمية كما يُفرض على الإدارة الترامبية اليوم أن تدخله،
قد يكون في التاريخ السابق أن القوة الإمبراطورية التي كانت تستخدمها أميركا في العلاقات الدولية مكّنتها من تحديد مرتسمات، وتوازنات القرار الدولي الذي يخدم مصالحها وحسب حتى بغض النظر عن مصالح مَنْ تحالفهم، ويحالفونها؛ أما اليوم، وفي حقبة التحول الدولي في توازنات القوى العالمية عسكرياً، واقتصادياً، ومن ثم سياسياً لم تعد عصا الرُّبّانية باليد الأميركية فقط بل أصبحت تشاركها قوى ناهضة، وقد حققت من التطور التكنولوجي العسكري أولاً ما يوقف القدرة الأميركية عند دوائر استراتيجية لا تستطيع أن تتخطّاها، ومن هنا أصبحنا نراقب السجال الداخلي في الدولة العميقة الأميركية حول مصالح أميركا في حروب ما وراء البحار، ومقادير مدّ، وتوطيد النّفوذ الأميركي عبرها، والتغذية الراجعة لمدخلاتها في السياسات الدولية وصيغ التحكم التي لم تبق على المنوال القديم حتى تبقى أميركا شرطي العالم المفروض، لا شك أن الحقبة العالمية الحاضرة من العلاقات الدولية تضيّق الدوائر الجيوسياسية لأميركا ليس بفعل القوى المتنامية حولها فقط، بل بفعل أزمتين: داخلية، وخارجية فيها.
في الداخلية نلاحظ فشل الحزبين بإقناع المواطن الأميركي بالعملية السياسية داخل بلده، وحجم مساهمتها في تطوير حياته المعيشية القائمة أساساً على قاعدة الوفرة المالية، والأميركيون المتشكّلون من قوميات عديدة لم يتشكّل بينهم رابط قومي على صيغة التناسج التاريخي المعروف عند الدول القومية التي حققت الدولة الأمة، ولذلك فالرابط الأهم في المجتمع الأميركي هو الوفرة المالية، وحين اشتدت الأزمة المالية الدولية منذ العام 2008 رأينا كيف تأثرت سلباً عوامل الترابط الاجتماعي لدى الشعب، وكيف بدت الدولة الاتحادية مربكة في قواعد سد الحاجات المتنامية لدى الناس، وظهرت النزاعات الداخلية بما يبرز عجز منظومة عمل الليبرالية المتوحشة بثوبها العولمي الحاضر عن الوصول إلى مجتمع الرفاه الذي كانوا يزعمون أنهم سوف يحققونه، والأزمة الخارجية كانت قد فرضتها التطورات في العلاقات الدولية، وتغيير صورة التحالفات حيث ظهر تحالف دول البريكس، وشنغهاي، وآسيان وغيرها ليعيد توزيع القوى الاقتصادية، وما لها من أثر في القرار العالمي وتوازناته الجديدة وخاصة التعاون الروسي الصيني بما لا يترك لأميركا المجال العالمي الذي كانت تتحرك فيه، أو الحصة التي كانت تفرضها في الاقتصاد الدولي.
ووفقاً لمقتضاه صار المجتمع الدولي يشهد المزيد من سياسات الغطرسة الأميركية في العلاقات الدولية حتى تمنع أميركا -واهمة- التحوّل الدولي نحو عالم الأقطاب المتعددة، فينتهي إلى الأبد عصر القطب الوحيد المهيمن، والضرر المهم الذي ما زال يقع على نمط السياسة الأميركية خاصة في منطقتنا العربية، أو الإقليم المسمّى بشرق المتوسط، أو الشرق أوسطي عموماً هو أن أميركا ليس لها استراتيجية واضحة فيه، وكذلك سياسة، وكل الذي لديها هو أنها تقوم بتعهّد السياسات الصهيونية بالتنفيذ، ولو أجبرت أدواتها الأعرابية، والمتأسلمة في هذا القبيل دون أن تراعي موقف شعبهم منهم، أو من المشروع الصهيوني التهويدي، الإحلالي بالأصل، ومن هنا يشار إلى فراغ السياسة الأميركية في منطقتنا، وإلى انخراط أميركا في خدمة المشروع الصهيوني ولو على حساب دافع الضرائب الأميركي الي ما زال يعيش أزمته المعيشية، وسلمه الأهلي، وفشل السياسات الحزبية للحزبين المتحكّمين بإداراته، ومجلسيه (الكونغرس، والشيوخ).
والصورة الأخيرة لأزمة السياسة الخارجية الأميركية أن الإدارات المتعاقبة قد رسّخت بذهن المواطن الأميركي صورة العدو الدولي لأميركا حتى تتشرعن حروب ما وراء البحار فتكون دفاعاً عن المصالح العليا للشعب الأميركي، وليست عدواناً على الأمم المختلفة وتدخلاً غير مشروع في حياتها الداخلية، وسيادتها، وهذا ما جعل أميركا بالعقل الإمبراطوري تشنّ الحروب المتعددة، ولو خسرتها جميعاً، وقد تفهم الرئيس أوباما أخطار هذه السياسة فانسحب من العراق، واستبدل التعامل الأميركي بالقوة الصلبة بالتعامل بالقوة الناعمة، ومع ذلك حينما أتى ترامب عادت حليمة لعادتها القديمة، وما حدث على الدول الوطنية الجمهورية العربية أعطى الدلالة كيف قادت أميركا تحالفاً دولياً ضد التقدم العربي ليتم فرض النموذج التكفيري الظلامي في إطار الممالك والمشيخات المتخلّفة، ومن الطبيعي أن يستهدف العدوان الأميركي بالإرهاب الدولي علينا بُنى التّقدّم، والصّمود، والمقاومة، وأن يحاول إجبارنا على التنازل عن الحقوق التاريخية المشروعة إن كان في الجولان، أو على كامل مساحة فلسطين العربية خدمة لإسرائيل كيان العدوان.
وعلى المقلب الآخر عملت أميركا على فرض تقسيم سورية فغرّرت بالكردية السياسية ربما لخلق توازنات تهمّها في شرق سورية تكون مساحة جديدة لتناقضات عرقية، واجتماعية، ودينية تجعل من الحل السياسي مسألة طويلة الأجل، وتفرض منظومة من علاقات الاشتباك المستمر الذي يشرعن وجودها، وعوامل استمراره، وحين دخلت بجنودها إلى سورية لم يكن لهذا الدخول شرعية من الدولة الشرعية، وبذريعة محاربة الإرهاب بالتحالف الدولي المزعوم عملت بكل طاقاتها العسكرية على حمايته من الجيش السوري, وحلفائه وتدّعي بأنها ما زالت شريكة بالحرب عليه. وبالنهاية لم يكن لأميركا بآخر إدارتين تشخيص سليم لمسائل المنطقة العربية، ولم تعمل لمصلحة العرب في شيء بل حضّرت لهم الحرب الإرهابية عليهم، وحين تعلن عن انسحابها من الأرض السورية لأنها: 1)- لم تملك سياسة تتعامل فيها معنا فهي متعهد لسياسة إسرائيل وحسب. 2)- لم تملك المصداقية في الحرب على الإرهاب، وهي التي أسست له منذ الحرب على الوجود السوفييتي في أفغانستان، والسعودية بلد المنشأ. 3)- فشل حربها على سورية بواسطة الوكلاء، وحين تولّت دور الأصلاء لم تستطع كسر الإرادة السورية وحلفائها. 4)- اعتمادها الخاطئ على الكردية السياسية حيث أدخلها إلى مشروع الوهم بالكانتون الكردي، وجعلها تواجه محور المقاومة، وتتحدّى حليفها التركي. 5)- فقدت مشروعية وجودها على الأرض السورية منذ لحظة دخولها، وهنا أصبحت أمام رفض مزدوج من الدولة ذات السيادة، ومن القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة. 6)- ربما داخَلَ المُخطِّطُ للدخول الأميركي وَهْمُ إضعاف الدولة السورية، وتفكيك تحالفاتها ليجد نفسه أمام دولة تتقوّى من شعبها، وحلفائها على الدّوام. 7)- البراغماتية الأميركية تعمل بعقلية رجل الأعمال وليس بمبادئ الدولة فحين اقتنع ترامب بعقم النتائج، وبأن التكلفة ستكبر دون جدوى لم يعد يهمّه مَنْ ورّطهم من الأكراد ولا غيرهم فأعلن عن انسحابه.
8)- ربما ينكث ترامب بقراره الانسحاب لكونه ما زال يراهن على تدوير التوازنات، وتشجيع أردوغان حتى يعوّض الفشل لكن الذي صار قناعة هو أن وجوده الاحتلالي لن يسعفه في تحقيق أي هدف، 9)- مع إعلان ترامب الانسحاب يعطي إسرائيل الضوء الأخضر للعدوان من جديد على محيط دمشق حتى يخرج نتنياهو من ورطته الداخلية، وحتى يعطي الانطباع عن نفسه بأن مفاتيح اللعبة ما تزال بيديه. 10)-مهما حاول ترامب أن يداور في قرار انسحابه فإنه سوف يُجبر عليه لأن الدولة السورية وحلفاءها هم الذين يفرضون التوازنات الإقليمية، والدولية، وهكذا تخرج أميركا من لعب دور الرُّبّان لتنكفئ، وتعود لداخلها حيث مشاكلها الأصعب.
بقلم د: فايز عز الدين
التاريخ: الأثنين 31-12-2018
رقم العدد : 16874