إن أهميَّةَ فارس الخُوري، بشخصيَّته الوطنيَّة والفكريَّة والسياسيَّة ورجلِ الدَّولة، متعدِّدَةُ المواهب والأدوار، لاتتأتَّى من المناصب السياسيَّة الهامَّة والمؤثِّرة التي شغلها في تاريخ سورية الحديث وحسب، وإنما من مجمل الصفات التي كان يتمتع بها، فقد كان مفكراً وطنياً ورجلاً أكاديمياً وشاعراً، انشغل بالدفاع عن القضايا الوطنية وحقوق الشعب السوري في الاستقلال والحرية بصلابة.
ولعل حكايته المشهورة مع المندوب الفرنسي في مجلس الأمن ما يعبر عن ذكائه عندما قام بالجلوس على المقعد الخاص بالمندوب الفرنسي، الذي فوجئ به يحتل مقعده، فطلب منه الانتقال إلى المقعد الخاص بسورية، لأن هذا المقعد مخصص له، وأشار له إلى المكان المخصص للمندوب السوري، إلا أن فارس الخوري تجاهل ما يقوله المندوب الفرنسي، وأخرج ساعته من جيب سترته وراح يتأمل فيها، بينما المندوب الفرنسي يلح في طلبه، حتى كاد أن يستشيط غضباً، فما كان من فارس الخوري إلا أن أجابه بلغة فرنسية واضحة وصوت جهير سمعه جميع من في القاعة: «بلدي يا سيادة المندوب احتملت احتلالكم لها خمسة وعشرين عاماً، وأنت لم تحتمل جلوسي على مقعدك 25 دقيقة..».
وهاهو المجاهد الشيخ «صالحُ العليُّ»، قائدُ الثَّورة ضدَّ المستعمر الفرنسيِّ في السَّاحلِ السُّوريِّ أمام الجنرالِ الفرنسيِّ «بيلوت» رئيسِ الحامية الفرنسية في اللاذقيَّة، عندما سلَّم نفسَه، وسأله عن سبب قيامِهِ بالثَّورةِ ضدَّهم قائلاً: «إنه حب الوطن»، وسأله الجنرال عن سبب التأخير في تسليم نفسه فقال: «لم يكن خوفاً من الاستشهاد في سبيل الله والوطن وإنما صوناً لكرامة الجهاد»، وأردف: «ووالله لو بقي معي عشرة رجال مجهزين بالسلاح والعتاد لما تركت ساحة القتال»، وعندما عرض عليه أن يبقى في السراي الحكومي يشاطره ويشاركه الحكم رفض، وعندما سأله عن السبب قال بصراحته المعهودة: «يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ولا تركنوا إلى الذين ظَلَمُوا فتمسَّكم النار»، وعندما ترجمت الآية للجنرال استشاط غضباً ووضع الشيخ المجاهد رهن الإقامة الجبرية، وعندما كحل عينيه بالجلاء دعاه الرئيس شكري القوتلي إلى دمشق وألقى كلمة الاستقلال في أول عيد للجلاء.. رافضاً عرض فرنسا سابقاً أن يكون زعيماً لدويلة طائفية، ولاحقاً أن يشغل أي مناصب بعد الاستقلال.
عقب إنذار غورو بدخول دمشق في5 تموز1920, لم يكن أمام أصحاب الغَيرة والوطنيَّة إلا المقاومةُ حتى الموت، وكان على رأس هذا الرَّأي وزيرُ الحربية يوسُف العظمة، الذي عمل على جَمْعِ ما تبقَّى من الجيش مع مئات المتطوعين والمتطوعات الذين اختاروا هذا القرار، واتجهوا لمقاومة القوات الغازية الفرنسيَّة الزَّاحفة تجاه دمشق، وقد أرادَ «العظمة» بخروجه أن يحفظَ لتاريخ سورية العسكريِّ هيبتَه ووقارَه، فقد كان يخشى أن يسجِّلَ التَّاريخُ أنَّ الجيشَ السُّوريَّ قعدَ عن القتال، ودخلَ المحتلُّ عاصمتَهُ دونَ مقاومة، كما أراد أن يسجِّلَ موقفاً أمامَ الشَّعب السُّوريِّ نفسِهِ، بأنَّ جيشَهُ حملَ لواءَ المُقاومة ضدَّ الاحتلال الفرنسيِّ منذُ اللحظة الأولى، وإنَّ ذلك سيكونُ نبراساً للشَّعب السُّوريِّ في مقاومته للمحتلِّ.
بعد أن تضايقَ الفرنسيُّون من ثورة الزَّعيم «إبراهيم هنانو»، عرضُوا عليه أن يكونَ رئيسَ دولة للمناطق التي تضُمُّ ثورتُه وهي (إدلب وحارم وجسر الشغور وأنطاكية) إلا أنَّهُ رفضَ، وقالَ للجنرالِ الفرنسيِّ المفاوضِ «غرِيُو»: إنَّ حياتنا ليست بِذَاتِ بَالٍ أمامَ حياةِ الوطنِ فنحنُ لم نقُمْ يا جنرالْ بحركتنا هذه لمكسبٍ شخصِيٍّ أو غُنْمٍ مادِّيٍّ، إنَّنا قمنا لنُحَرِّرَ بلادَنا المقدَّسَة من الاستعمار، ولن يَثنيَنا عن عزمنا وعدٌ أو وَعيدٌ, وممَّا رُوِيَ عن الزَّعيم «هنانو»، أنَّه وبعد أن رأى جحافلَ الفرنسيِّين تدخلُ بلدَهُ، قامَ بجمعِ أثاثِ بيتِهِ وأضرمَ النَّار فيه قائلاً جملَتَهُ المشهُورة: «لا أريدُ أثاثاً في بَلَدٍ مُسْتَعْمَر»ٍ، ولقد أرَّقَتْ ثورةُ «هنانو» المستعمرَ الفرنسيَّ لدرجة دفعَتْ النَّائبَ العامَّ الفرنسيَّ في المحكمة العسكريَّة التي تولَّت مُحاكمَةَ «هنانو» بعد اعتقاله إلى القول: «لو كان لإبراهيم هنانو سبعةَ رؤوسٍ بعددِ جرائمِهِ، لطلبتُ إعدامَ رؤوسِهِ السَّبعة، ولكنه لا يملك إلا رأساً واحداً».
في العام 1962 عُين الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة سفيراً لسورية في الولايات المتحدة الأميركية، أيَّام الانفصال بين سورية ومصر، وفي زمن قياسي، أصبح أبو ريشة صديقاً شخصياً للرئيس الأميركي «جون كينيدي». كان أبو ريشة، وهو خريج مانشستر والجامعة الأميركية في بيروت، يجيد اللغة الإنكليزية بطلاقة، وكان يزور المكتب البيضاوي في البيت الأبيض بشكل دوري ويقرأ الشعر لكينيدي بالإنكليزية حيث يجلس الرئيس في كرسيه الهزاز ويستمع إلى الشاعر السوري يحدثه عن الحب والسياسة، وعن وطنه، وفي إحدى تلك الجلسات قال كينيدي لضيفه السوري: «سعادة السفير، أنت رجل مبدع يا عمر, لو كنتَ أميركياً، لعيَّنتُك مستشاراً عندي!» فضحك الشاعر وأجاب: «يا سيادة الرئيس، لو كنتُ أميركياً، لَجَلَسْتُ مَكَانَكْ!..».
غيضٌ من فيضِ السُّوريِّين الشُّرفاء الخالدين على مر الزَّمان والمحن.. جمرةٌ من حقٍّ ووطن، وشذراتٌ من نور ونار لاتخبو عبر الدهور.
ليندا ابراهيم
التاريخ: الجمعة 11-1-2019
الرقم: 16882