يجلسُ شاعرٌ إلى طاولة الكتابةِ ساعةً أو أكثر فلا يستطيعُ أن يكتبَ شيئاً، ثمّ ها هو ذا يسير ُفي حديقةٍ أو يجلسُ على كرسيٍ في وسيلةِ نقل فإذا بالسطر الشعري الأوّلِ ينجسُ فجأةً، وقد يتلوهُ سواه…
يقفُ فنانٌ تشكيليٌ قبالةَ لوحة بيضاء لزمن طويلٍ يهمّ بأن يرسُمَ خطاً أو يضَعَ كتلةً لونيةً فلا يستطيع.. ثُمّ ها هو ذا فجأةً ينهضُ عن فراش النومِ أو يترك طاولة الطعام ويشرعُ بإشغالِ فضاء اللوحةِ الأبيضِ بخطوط وألوانٍ وتكوينات… وما إلى ذلك من الحالاتِ الكثيرةِ المشابهة، التي يعزوها المبدعون أنفسهم ومتابعوهم من الناس إلى الإلهام، ويبالغُ بعضهم في منح هذا الفعل الغامضِ أهميته، ويرفضُ بعضهم الاعتراف به، حتى إذا حاولنا أن نتلمَّسَ هذا الفعل، أو سعينا إلى فهمه وجدنا أنفسنا أماَمَ تاريخٍ طويلٍ له، وحضورٍ ممتعٍ في ثقافات الشعوبِ كُلّها منذ أقدم الأزمنة؛ فالإغريق مثلاً وقبلَ سقراط وأفلاطون وأرسطو ردّوا هذا الفِعْلَ إلى «ربّات الإلهام» وهنّ تسعُ ربّاتٍ شهيراتٍ متخصّصات؛ «muses»؛ ومن هنا اشتقَ الغربُ مفردات أخرى كـ «musica « للموسيقى و»museum» للمتحف، أمّا عند الشعراء العرب القدامى فقد كان مصدر الإلهامِ شيطانٌ من وادي عبقر، وشياطين الشعرِ يتفاوتون من حيث البلاغة وجمال اللغة وغزارة الإنتاج، وقد أفشى بعض الشعراءِ أسماءَ ملهميهم؛ فشيطان امرئ القيس هو «حافظُ بن لافظ»، وشيطان الأعشى هو» مسحل بن جندل السكران»، حتى ذلك الفتى العربي الصغير الذي انصرفَ عنهُ الكبارُ لصِغرِ سنّه نراهُ يُصَّرحُ أن ملهمه هو مليكُ الجنِ نفسه وبالتالي فمن حَقّهِ أن يُسمع: إنّي وإنْ كنتُ صغيرَ السنِّ
وكانَ في العينِ نبواً عنّي
فإن شيطاني مليكُ الجنِّ
يذهبُ بي في الشعرِ كُلّ فَنِّ
وكان سقراطُ من قبلُ قد رأى أن الإلهامَ يكمن وراءَ قولِ الشعِر، وبالَغَ أفلاطون أكثرَ من ذلك حين قال: «الكلام الجميل الذي يجري على ألسنِةِ الشعراء ليسَ من صُنعِهم، وإنما هو إلهامٌ يُلْهَمونَه».
ومن الذين بالغوا في دور الإلهامِ في العمليّةِ الإبداعيّة هم الرومنسيّون، فقد عَبّر الشاعر لامارتينَ ذات يوم أنّه نظمَ قصيدته الشهيرة «البحيرة»، «دفعةً واحدة في لحظةِ إشراقٍ مُلهم»؛ لكنّ الباحثينَ والنُّقّاد وجدوا بعد وفاتِهِ سبع نسخ مختلفة من القصيدة نفسها، تحمل كل واحدةٍ تعديلات وتصوبياتٍ مختلفة، وبالمقابل يرفضُ الكثيرُ من المبدعين انتظار وحي الإلهامِ، أو ربّات الفن ويفضّلُ الإمساكَ بالقلمِ أو بفرشاةِ الألوانِ والانصراف إلى العملِ الدؤوب، ولذلك قال جاك لندن: «لا يمكن انتظار الإلهام، عليكَ أن تخرج وتطارده بهراوة»، وعبّر عن مثل هذا المعنى بابلو بيكاسو حين قال:» الإلهام موجود. ولكن عليهِ أن يجدنا ونحن نعمل» وهذا ما عناهُ شارل بودلير بقولِهِ «الإلهامُ يأتي من العمل يوميّاً».
والحقيقة أن من مارسَ العملية الإبداعيّة بحق يعلم أن لا إلهامَ من دونِ عملٍ دؤوبٍ يقوم به المبدع، وثقافةٍ عاليةٍ تعب حتى اكتسبها، وامتلاكٍ خَلاّق لأدواتِ عمِلهِ الشعري أو الروائي أو الفني التشكيلي أو الموسيقي، وحساسيّةٍ مرهفةٍ شفافة في التعاملِ مع الكونِ من حولِهِ بموجوداتِهِ كلها، وذكاءٍ لمّاحٍ في التقاطِ كل جميل وجديد ومختلف فإن توافر للمبدع ذلك… جَاءَهُ الإلهامُ صاغراً ورمى بين يديِهِ ثماره!
إضاءات
د. ثائر زين الدين
التاريخ: الاحد 13-1-2019
رقم العدد : 16883
التالي